إسرائيل وقطاع غزة: التصعيد مقبل… ما لم يتراجع الاحتلال وحصاره
على رغم كل المواقف والتصريحات الإسرائيلية «الحربجية»، التي أطلقت من تل أبيب خلال تبادل الهجمات مع قطاع غزة، إلا أن اليوم الذي أعقب وقف إطلاق النار بين الجانبين، كشف فراغ سلة الخيارات الإسرائيلية الفعلية في مواجهة الفصائل وإصرارها على أهدافها، وفي مقدمها فك الحصار عن قطاع غزة. الموقف التراجعي الإسرائيلي المبني على محدودية الخيارات الفعلية لدى تل أبيب، ظهر في موازاة تقلص الردع الإسرائيلي أمام الفلسطينيين، وأظهر لا إرادة التصعيد الإسرائيلية المبنية على الخشية من الآتي، في حين كشف تلقفها لإشارات التهدئة، مصلحتها في الحؤول دون تصعيد أمني واسع مع القطاع، حتى وإن أدى ذلك إلى تضرر صورة اقتدارها، مع ما يمكن أن يتبع ذلك من تداعيات، قد لا تقتصر فقط على قطاع غزة، بل تؤثر سلباً في إسرائيل ومصالحها ومكانتها، أيضاً في الساحتين الأكثر تفعيلاً للتهديدات: سوريا ولبنان.
لكن ما الذي يدفع إسرائيل إلى التراجع على رغم الاقتدار المادي، وعلى رغم كل الأضرار في أعقابه؟ في ذلك، تجدر الإشارة إلى الآتي: لم تعد لدى إسرائيل خيارات عملية يمكن الرهان عليها، سواء عسكرية أو سياسية، أو خليط منهما. التقديرات السائدة في تل أبيب، تشير إلى أن اليوم الذي يلي الخيار العسكري الواسع مع القطاع، هو نفسه من حيث تموضعها وأعدائها وتهديداتهم، لليوم الذي سبق. وهو أحد أهم الأسباب، الذي يمنع إسرائيل، عن مباشرة الخيار العسكري الواسع.
في الجولات العسكرية الواسعة ضد قطاع غزة، عام 2010 و2014، كان الرهان قائماً على إمكان عودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع، بعد إنهاك وإضعاف حماس والجهاد الإسلامي وفصائل المقاومة المصطفّة إلى جانبهما. كان الرهان قائماً ومقدّراً نجاحه، وإن تبيّن لاحقاً، تعذّره وصعوبة تحقيقه على خلفية ثبات وصمود الفصائل، وفي الوقت نفسه، وربما هو الأهم، الاتضاح اللاحق لضعف السلطة وحركة فتح، وهو ضعف أكثر بكثير مما كان يعتقد ويراهن على إمكان جبره عبر إضعاف «حماس».
وخيار عودة السلطة، بطبيعة الحال، هو الخيار الأكثر تساوقاً مع المصالح الإسرائيلية الأمنية والسياسية، على رغم أنه بات مستبعداً ومتعذراً، ضمن القدرات والخيارات الإسرائيلية، إضافة إلى ضعف السلطة نفسها، وتراجعها، حتى وإن أقدمت إسرائيل نظرياً على شن حرب ضد «حماس» والفصائل، والعمل على إضعافها.
الخيار الآخر، المبني على الضغوط السياسية مع التلويح بالخيارات العسكرية، جرى تفعيله طويلاً في العامين الماضيين، وبمعية الجانب المصري مع مباركة أميركية. وهو يقضي بإعادة السلطة إلى غزة بالتوافق مع حماس، على أن يعطى عباس جزءاً من الحكم مقابل فك للحصار يمكن التعايش معه. رفض السلطة وتعقيدات تفصيلية أخرى، أفشل محاولات المصالحة حتى الآن. من ناحية أبو مازن، لا يريد أن يُعاد إلى غزة من دون أن يكون في موقع المسؤولية والإمرة الكاملتين، وبحسب تعبيرات المحيطين به، لا يمكن للسلطة أن تتحول في حال عودتها إلى ما يشبه شرطي سير، فيما المسؤولية والقرار عن السلاح واستخدامه يعود إلى «حماس». مع ذلك، يخفي هذا الرفض ضعفاً كبيراً جداً، وتقلص القدرة على حكم غزة، حتى لو قيّد له ذلك.
على هذه المباني، بات مفهوماً التقدير الإسرائيلي، إنه في حال شنّت الحرب الواسعة ضد حركة حماس، بمعنى الحرب التي تذهب من خلالها إلى أقصى الحدود، ستنتج فراغ سلطة يجبر إسرائيل على البقاء في غزة، وهو ما لا يريده أحد في إسرائيل، وخارج إطار التكفير ودائرة الخيارات الإسرائيلية.
على ذلك، لا يبقى أمام إسرائيل إلا التعايش مع حركة حماس، على أن تكون ضعيفة تتلقى أفعال إسرائيل بلا ردود، وتمتثل لإملاءاتها، الأمر الذي يتبيّن تعذره، إلا في حال أقدمت على عملية عسكرية واسعة النطاق، تضعف الحركة وتقلص مكانتها الردعية، ودور وفاعلية وتأثير جناحها العسكري، وسلاحه وتعاظمه.
مع ذلك أيضاً، العمل العسكري الواسع دونه عقبات وخشية من الأثمان، ومعقولية عدم تحقيق النتيجة. خيار عام 2018 البري، سيكون واسعاً، وغير مقتصر على المناطق الحدودية المحاذية للشريط الشائك، ويجب أن يكون هادفاً وفي خدمة مشروع سياسي لليوم الذي يلي الاجتياح البري، وهو مشروع غير موجود وإن وجد فإنه يعاني من ثقوب. معنى ذلك، أن العملية العسكرية في حال مباشرتها، تعيد إسرائيل تموضعها مع حركة حماس، إلى النقطة التي تبدأ بها. في حين تتحدث التقديرات باطمئنان، عن عدد كبير جداً من القتلى الإسرائيليين، وربما مزيد من الأسرى، وهو ما لا يريده أحد في تل أبيب.
هذه التقديرات، من شأنها أن تفسّر رد الفعل في المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية في تل أبيب، قبل ساعات من مسارعة إسرائيل لقبول وقف إطلاق النار، في الجولة الأخيرة قبل يومين: عندما عرض ليبرمان الخيار العسكري الواسع، تصدى له رئيس وزرائه بنيامين نتنياهو، ومعظم أعضاء الكابينت، فيما تأكّد عبر التسريبات اللاحقة أن الجيش لم يكن قد أوصى بخيار كهذا، مع معارضة واضحة ومباشرة، لرئيس أركانه، غادي ايزنكوت.
هذه هي خيارات إسرائيل: ضرورة الابتعاد عن التصعيد، والمعاندة في رفض التوصل إلى تسوية تنهي حصارها لغزة، إضافة إلى العمل على احتواء جولات التصعيد المحدودة بلا خيارات وحلول عملية فعلية، فيما موقف حماس ثابت في موازاة إدراكها أن لا خيارات عملية لدى أعدائها، وهو ما تمتهن استغلاله.
إلى أين ينتهي هذا الصراع؟ في نهاية المطاف، الإصرار الفلسطيني من شأنه أن يفضي إلى نتائج. الفصائل لن ترضى بأقل من رفع الحصار ووقف إطلاق النار مقابل وقف إطلاق النار، ومن جهة إسرائيل، عليها أن تقرر وفق خياراتها وإمكاناتها العملية الفعلية، أن تباشر خياراً متطرفاً وحرباً واسعة، لا تريدها، أو أن تقدم على دفع الثمن، حتى وإن كانت لا تريده، وتعمل على الابتعاد عنه ما استطاعت.
صحيفة الأخبار اللبنانية