“إسرائيل” ونظرية “إطفاء اللهب”.. أي نتائج وأي تداعيات؟
كانت عقارب الساعة تقترب من الساعة الرابعة وتسع دقائق تقريباً من عصر يوم 16 شباط/فبراير عام 1992، عندما أطلقت طائرة أباتشي صهيونية صاروخاً من طراز “هيل فاير” على سيارة مرسيدس سوداء كانت تسير في موكب من السيارات قرب بلدة “جبشيت” في الجنوب اللبناني، ما أدى إلى نشوب النار فيها، بعد ذلك بدقائق أطلقت صاروخاً آخر على سيارة أخرى كانت تسير في الموكب نفسه وأصابتها مباشرة، حدثت حالة من الهرج والمرج في المكان، ونُقل المصابون من داخل السيارتين المستهدفتين إلى سيارة جيب من طراز “رانج روفر” انطلقت بدورها مسرعةً إلى أحد المستشفيات، إلا أن الطائرة لاحقتها وأطلقت عليها صاروخاً أدى إلى انفجارها ونشوب النار فيها.
تبين لاحقاً ومع ساعات المساء أن ما جرى كان عملية اغتيال نفذتها طائرات صهيونية بحق السيد عباس الموسوي، الأمين العام لحزب الله اللبناني، الذي تولّى ذلك المنصب عام 1991 كثاني أمين عام للحزب، وقد استُشهد معه في ذلك الوقت زوجته وطفله الصغير.
بعد شهر تقريباً من عملية الاغتيال تلك وتحديداً في 17 آذار/مارس من العام نفسه هز انفجار كبير مبنى السفارة الإسرائيلية في العاصمة الأرجنتينية “بوينس آيرس” نتيجة اصطدام شاحنة مفخخة بها، أسفر هذا الهجوم عن مقتل وإصابة أكثر من 270 شخصاً.
في اليوم التالي لعملية تفجير السفارة التي اتهمت فيها “إسرائيل” حزب الله، كتب كبير المحلّلين العسكريين الإسرائيليين، زئيف شيف، مقالاً في صحيفة “هآرتس” قال فيه: “كنا نعتقد أن ضرب الرأس يُطفئ اللهب، ولكننا اكتشفنا اليوم أن ضرب الرأس يمكن أيضاً أن يلهب النار”.
ما عبّر عنه “شيف” كان يُعد وما زال جزءاً من العقيدة القتالية للجيش الصهيوني، وأجهزة استخباراته، وصولاً إلى القيادة السياسية في “إسرائيل”، ولكن يبدو أن تلك النظرية قد واجهت فشلاً ذريعاً ومتكرراً في عمليات كثيرة نفّذتها دولة العدو، واستهدفت من خلالها قيادات من الصف الأول لفصائل المقاومة في المنطقة.
فمن الدكتور فتحي الشقاقي عام 1995، مروراً بالقائد أبو علي مصطفى عام 2001، وصولاً إلى الشيخ أحمد ياسين عام 2004، وكثيرين من قادة المقاومة الفلسطينية والعربية، التي اعتمدت في عمليات اغتيالهم “إسرائيل” على الإيديولوجيا نفسها التي كانت تعتقد أنها يمكن أن تحقق نجاحات مبهرة، ونتائج ملموسة، ولكنها في كل مرة كانت تحصد الفشل تلو الفشل، والإخفاق يتبعه الإخفاق.
فقوى المقاومة التي كان يُراد لاغتيال وتصفية قادتها أن يؤديا إلى تراجعها وانكفائها وصولاً إلى تفككها واندثارها، باتت اليوم رعباً يلاحق الاحتلال في كل الساحات، بل إن البنية التنظيمية لتلك الفصائل، وأذرعها المختلفة التي تتحمل الجزء الأكبر في منظومة العمل الحركي والنضالي، باتت اليوم تتميز بالكفاءة والمهنية والانضباط أكثر من ذي قبل.
وبناء على ما تقدم سنحاول أن نناقش، على عجالة، “التكتيك العسكري” الإسرائيلي المتّبع في الأشهر الأخيرة في مدن الضفة الغربية المحتلة، الذي يبدو أنه يعتمد على النظرية القديمة الجديدة نفسها “اضرب الرأس ينطفئ اللهب”، حيث تعمد “إسرائيل” إلى تنفيذ عمليات اغتيال ممنهجة ضد كل من تعتقد أنهم قادة العمل المقاوم هناك، على أمل إطفاء ألسنة اللهب التي بدأت تشتعل في كل مدن وقرى الضفة، وباتت تشكل معضلة حقيقية لدولة الاحتلال ومستوطنيها، على الرغم من الفرق الكبير في الإمكانيات بين المقاومة وجيش العدو.
فمع انتصاف شهر أيار/مايو من عام 2021 بدأت عمليات إطلاق النار في اتجاه المعسكرات والحواجز العسكرية الإسرائيلية تعود من جديد إلى بعض مدن وقرى الضفة الغربية، هذه العودة المفاجئة وغير المُتوقعة بعد سنين طويلة من الغياب القسري، لا سيما في مدينة جنين ومخيمها، دفعت العدو إلى التحرّك سريعاً قبل فوات الأوان، وهذا التحرك كان نابعاً من اعتقاده بأن أي تأخير في معالجة ذلك التهديد الذي كان في بداياته يمكن أن يسبّب خسارة كبيرة مستقبلاً، خصوصاً في ظل نتائج وتبعات معركة “سيف القدس” التي كانت نتائجها تلقي بظلال قاتمة على المجتمع الصهيوني نتيجة ما وقع فيها من أحداث، تحديداً الاستهداف الكبير وغير المسبوق لمدن المركز كـ “”تل أبيب”” وضواحيها، وباقي المدن المهمة كعسقلان وأسدود وبئر السبع وصولاً إلى هرتسيليا.
فبادرت “إسرائيل” إلى اغتيال الشهيد جميل العمّوري في العاشر من حزيران/يونيو 2021، وهو الذي كان يقف خلف معظم تلك العمليات، وقد نجح بطريقة أو بأخرى وفي ظروف بالغة الدقة في تأليف “خلية عسكرية” أمكنها كسر الصمت المُطبق على مختلف محاور الضفة، وشكل تهديداً حقيقياً للقوات الصهيونية المتمركزة في معسكراتها ومواقعها المختلفة.
وقد حاولت “إسرائيل” بعملية الاغتيال تلك إطفاء اللهب الذي كان منتظراً منه أن يشتعل في حال استمرت تلك الموجة من العمليات، وأرادت وأد أي نشاط عسكري منظم في ساحة الضفة التي تتمتع بأهمية جيوسياسية فائقة الحساسية والتعقيد، ولكنها فوجئت كما هي العادة بالنار تلتهب أكثر من ذي قبل، فتلك الخلية التي شكّلها الشهيد العمّوري وكانت تتكون من 3 أفراد فقط، تحولت ببركة دماء الشهيد، وبجهد عظيم وبمثابرة قل نظيرها من رفاقه المقاومين، إلى ما بات يُعرف الآن على نطاق واسع بـ “كتيبة جنين” التابعة لـ”سرايا القدس”، الجناح العسكري لحركة الجهاد، والتي أُعلن انطلاقها في أيلول/سبتمبر من العام الماضي.
بل حدث أسوأ من ذلك بالنسبة إلى العدو، إذ تمدّدت هذه الكتيبة لتصبح لها أخوات في نابلس وطوباس وطولكرم، وتتحوّل إلى مصدر إلهام لكثير من الشبان الذي أخذوا زمام المبادرة وقاموا بتنفيذ عمليات هجومية في قلب المدن الإسرائيلية موقعين خسارات كبيرة ووازنة في صفوف المستوطنين والجنود الصهاينة، إضافة إلى ذلك شكّلت تلك الكتيبة رافعة لمشروع المقاومة الشعبية الذي عاد للظهور من جديد، وأصبح مشهد المسيرات والاحتجاجات والمواجهات مألوفاً وطبيعياً بعد أن تحول في فترة من الفترات إلى أحداث موسمية لا نراها إلا في المناسبات الوطنية الكبرى.
زد على ذلك نجاح “كتيبة جنين” وأخواتها في جذب العشرات، إن لم يكن المئات، من مقاتلي الفصائل الأخرى، لا سيما كتائب “شهداء الأقصى”، وجزء من عناصر السلطة الفلسطينية إلى صفوفها، أو العمل بالتنسيق معها، وهذا بدا واضحاً وجليّاً في العمليات والتصدّيات الكثيرة التي وقعت في جنين ونابلس تحديداً.
ما حدث في جنين مع الشهيد جميل العمّوري ورفاقه، وما ترتّب عليه من نتائج وتبعات، تكرذر غير مرة في باقي مدن الضفة المحتلة، لا سيما في نابلس بعد اغتيال الشهيد إبراهيم النابلسي، الذي اعتمدت فيه “إسرائيل” المنطق نفسه والأيديولوجيا نفسها، ولكن النتائج أيضاً في هذه المرة لم تكن لمصلحتها، وتحوّلت نابلس إلى كتلة من اللهب تنفث نيرانها في وجه جيش العدو ومستوطنيه كل صباح وكل مساء.
في الحصيلة يمكننا أن نتوقع ألا يتوقف العدو عن استخدام هذا التكتيك الذي يرتكز على نظرية “اضرب الرأس ينطفئ اللهب”، لأنه يعتقد، وعلى كثرة الإخفاقات المتكررة التي مُني بها في هذا الإطار، أن تغييب القادة سيترك فراغاً في منظومة القيادة والسيطرة لدى فصائل المقاومة، وأنه يمكن أن يأتي الوقت الذي لن يكون القائد الجديد فيه بكفاءة وقدرات سلفه الشهيد، لكن تجربة السنوات الماضية تقول عكس ذلك، فقوى المقاومة في فلسطين والمنطقة أظهرت قدرة هائلة على امتصاص الضربات على الرغم من شدتها، وتبيّن أن لديها من الكوادر والقيادات من يستطيع أن يملأ الفراغ الناتج عن عمليات القتل والاغتيال، وفي كثير من الأوقات كان القادة الجدد أكثر شراسة وجرأة من أسلافهم، ويمكننا تالياً أن نتوقع أيضاً أن اللهب لن ينطفئ بغياب هذا القائد أو ذاك، بل ستزداد النار اشتعالاً وتوقّداً، وصولاً إلى المعركة الحاسمة، تلك المعركة التي نوقن بما لا يدَع مجالاً للشك أنها آتية لا محالة.
الميادين نت