إسلاميو الثورات… أي نظام للحكم؟ (ريتا فرج)

ريتا فرج

تعددت السيناريوات السياسية حول طبيعة الأنظمة التي سيحتكم اليها الإسلاميون بعد وصولهم الى السلطة. قسم رجّح تماهي حركات الإسلام السياسي المعتدل مع الأنموذج التركي، وقسم آخر قال إن هذه الحركات ذاهبة باتجاه الخيار الإيراني، وآخرون اعتبروا أن الإسلام الباكستاني القائم على ديموقراطية برلمانية بحكومة منتخبة يسيطر عليها العسكر والقوى الدينية سيكون من بين الاحتمالات المتاحة، ولعل الأخطر من بين الترجيحات ذهاب الإسلاميين نحو الإسلام الوهابي. والحال إزاء وطأة كل هذه السيناريوات أي إسلام سياسي عربي سيولد من رحم الثورات؟
يرفض حزب «الحرية والعدالة» الذي ينادي بالدولة المدنية الأخذ بالإسلام السياسي التركي، وقد أعلن عن موقفه المتوقع، خلال زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الى مصر العام الماضي، حين دعا الإسلاميين الى الأخذ بتجربة حزبه. هذا الرفض يعود لسببين أساسيين: عدم قدرتهم على تطبيق فصل الدين عن الدولة، وتأكيدهم أن الشريعة الإسلامية ستكون أحد مصادر التشريع. عقائدياً ليس بإمكان الإسلاميين المصريين الأخذ بتجربة حزب «العدالة والتنمية»، ولا تنطبق عليهم تجربة «الاسلام الباكستاني»، وإن بشكل غير مباشر، تحديداً بعد الانقلاب الأبيض الذي قام به الرئيس محمد مرسي، بإقالة المشير حسين طنطاوي وبعض أركان المجلس العسكري، وهذا لا يعني الاستبعاد الكلي لهذا السيناريو، فالعكسر حتى الآن لم يردوا على الصفعة التي تلقوها، ومن الصعب أن يتنازلوا عن دورهم الذي اكتسبوه منذ ثورة الضباط الأحرار العام 1952.
هدف «الإخوان المسلمين» في مصر «إقامة دولة إسلامية تعتمد الشريعة مصدراً للتشريع» هذا ما يقوله بعض الباحثين الأميركيين، ولكن لنعد قليلاً الى الوراء، تحديداً الى التقرير الذي أصدرته مؤسسة «راند» الأميركية (إحدى أهم خزانات التفكر أو «الثينك تانكس») العام 2007 تحت عنوان «بناء شبكات مسلمة معتدلة»، حيث طالب بدمج الإسلاميين في العملية السياسية، والتعامل معهم باعتبارهم شركاء. وقد استعرض التقرير وجهتي نظر مختلفتين حول هذه المسألة: الأولى، تتبنى الدمج وتقوم على ثلاث حجج، أولاها أن الإسلاميين يمثلون البديل المحتمل للأنظمة الشمولية في العالم الإسلامي، خصوصاً في العالم العربي؛ ثانيتها، أن العديد من الجماعات الإسلامية تتبنى أجندة ديموقراطية تقوم على احترام التعددية وحقوق الأقليات، كما هو الحال مع جماعة «الإخوان المسلمين» المصرية؛ ثالثتها، أن هؤلاء الإسلاميين هم الأكثر قدرة على مواجهة الخطر الراديكالي الذي يمارس العنف والإرهاب، وهم أقدر على ذلك من رجال الدين التقليديين. ماذا يعني ذلك رغم أن التقرير صدر منذ خمس سنوات؟ الثابت أن الاسلاميين حلوا مكان الأنطمة الشمولية في مصر وتونس، أما بالنسبة الى الخطر الجهادي، فما عاد الجهاديون المصريون يحتلون الساحات، تحديداً إثر المراجعات التي قاموا بها مطالع التسعينيات، أما جهاديو «البن لادينية»، فيبدو أن هؤلاء تراجعت حركتهم تراجعا ملحوظا في السنوات الأخيرة، وخصوصاً بعد مقتل ملهمهم الروحي، ما يعني أن إسلاميي مصر أمام مواجهة التيار السلفي الذي انخرط في الحكم بعد الثورة، وهم لم يدخلوا حتى الآن في صدام مباشر معه، وربما قد يُستخدم هذا التيار في مرحلة لاحقة كوقود احتياطي لصد الليبراليين واليساريين، علماً أن السلفية صنعها الرئيس حسني مبارك، لضرب «الاخوان».
وبصرف النظر عن هواجس الأميركيين وما تنتجه مؤسساتهم، رغم أنهم اليوم يباركون وصول الاسلاميين الى السلطة ويتواصلون معهم، فلا شك بأن «الإخوانية» المصرية التي تؤكد الهوية المدنية للدولة في خطابها العلني، لن تتجه الى أي من السيناريوات: الايرانية، التركية، الوهابية، هي الآن لا ترفع شعار «الإسلام هو الحل»، إلا أنها في المقابل لن تتخلى عن الطابع الإسلامي المبطن للدولة، وستحاول قدر الإمكان تمرير مشروعها عبر استراتيجية «التمكين» التي بدت واضحة للعيان في الوثيقة التي وضعتها العام 2010 والتي تمّ ضبطها بحوزة عصام العريان عضو مكتب الإرشاد، وتكشف الوثيقة عن المخطط الذي وضعته الجماعة، بهدف اختراق المجتمع المصري والسعي الى «أخْوَنته»، وقد تم تقسيم الوثيقة الى ثمانية محاور: قسم نشر الدعوة، قسم التربية، قسم التنمية الإدارية، قسم العمال والفلاحين، قسم الجامعات، قسم الإعدادي والثانوي، قسم الأشبال، قسم المهنيين، وهذا لا يسمح بالمراهنة على المزيد من التحولات الجذرية على المستوى العقدي.
إسلاميو مصر في نشوة انتصارهم التاريخي والسياسي، ومن بين الأحزاب السياسية، هم الأكثر تنظيماً واختراقاً للشرائح الشعبية، عدا ما يتمتعون به من قوة مالية، الى جانب نفسهم الطويل في التقلب مع كل التحولات، وعلى الرغم من حديثهم عن مدنية الدولة، لكنهم لن يذهبوا أبعد من الطابع الظاهري لهذه المدنية، ولن يجرؤوا على فصل السياسي عن الديني، وسيتجهون أكثر فأكثر نحو إسلام سياسي شعبوي لا مدني/ تمديني. وصحيح أنهم قد يلتقون في بعض النقاط مع الإسلام التركي أو الاسلام الايراني، لا سيما ما يتعلق بالتمكين الاجتماعي والسياسي، لكنهم قد يفترقون عنهما في مسألتين: فرض تطبيق الشرعية الإسلامية بالقوة كما هو الحال في إيران، وعدم تجاوز الخطوط الحمر في فصل الدين عن الدولة كما هو الحال في تركيا.
قد تكون حركة النهضة في تونس الأقرب نسبياً الى الإسلام السياسي التركي، خصوصاً بعد أن أعلن راشد الغنوشي أن الدستور الجديد لن يتضمن نصاً يشير الى أن الشريعة الإسلامية مصدر التشريع، واعتبر أن تجربة حزبه، أقرب الى حزب التنمية والعدالة، ولم يرفض العلمانية معتبراً أن الديموقراطية لا تتناقض مع الإسلام، عدا أنه يقارن بين تجربة حركة النهضة والأحزاب الديموقراطية المسيحية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية.
على المستوى الإجرائي أعلنت الحركة في برنامجها مجموعة من المبادئ من بينها: المرجعية الوسطية للاسلام، والدولة المدنية، واحترام حقوق الانسان، وضمان حقوق الأقليات. وفي المقدمة التي وضعت تحت عنوان «أهداف الثورة في متناولنا» دعمت «النظام الجمهوري باعتباره كفيل الديموقراطية» وأكدت «احترام حقوق الانسان دون تمييز على أساس الجنس أو اللون أو الاعتقاد أو الثروة»، وأشارت الى «أن النظام البرلماني يضمن الحريات العامة والخاصة»، وأكدت أنها «امتداد لمدرسة الإصلاح» التي عرفتها تونس في القرن التاسع عشر من أجل الاصلاح السياسي والاجتماعي والثقافي ضد الاستعمار، وخلصت الى أن الفكر الإسلامي في حاجة الى تجديد مستمر، ليكون قادراً على مواكبة التطور والمساهمة فيه، انطلاقاً من أن الإسلام يستوعب كل نافع ويحض عليه من مثل ما ورد في المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الانسان والتي تتناسب بصفة عامة مع قيم الإسلام ومقاصده. ماذا يعني هذا كله؟
الأكيد أن إسلاميي تونس لن يتجهوا نحو الأنموذج الايراني، فهم الآن ضمن ما يسمونه «الإسلام الوسطي» لكنهم لا يؤيدون بالكامل فصل الدين عن الدولة كما حدث في الإسلام التركي، وإذا حاولوا أسلمة الدولة فسيواجهون الليبراليين والعلمانيين، علماً أنهم لا ينادون بالقطيعة التامة بين الديني والسياسي على الطريقة الاوروبية؛ والحركة «لا ترى تلازماً بين الديموقراطية والعلمانية» كما أكد الغنوشي في مقابلة سابقة أجريتها معه، إذ يطالب بدولة مدنية تُحترم فيها الحريات العامة والخاصة ومبادئ حقوق الانسان والتداول السلمي للسلطة.
على إسلاميي مصر وتونس الذين وصلوا الى الحكم بديموقراطية الثورات، أن يكونوا أكثر وضوحاً في تحديد طبيعة نظام الحكم، ومصطلح الدولة المدنية فضفاض وعام ويستوعب كل الاحتمالات، ويحمل في طياته فخاخاً قد لا تناسب الاسلاميين، ويقوم على عدة مبادئ ينبغي توافرها، أهمها: أن تقوم تلك الدولة على التسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات، وعلى الثقة في عمليات التعاقد والتبادل المختلفة، وعلى مبدأ المواطنة الذي يعني أن الفرد لا يُعرف بمهنته أو بدينه، بل يُعرف تعريفاً قانونياً اجتماعياً بأنه مواطن، أي أنه عضو في المجتمع له حقوق وعليه واجبات.
والأهم بين كل المبادئ التي تتأسس عليها الدولة المدنية، عدم الخلط بين الدين والسياسة، وعدم استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، لأن هذا الاستخدام يتنافى مع مبدأ التعدد. فهل بإمكان الإسلاميين في تونس ومصر تجنب المزج بين الديني والسياسي؟ وهل بمقدورهم تنحية الدين عن السياسة، خصوصاً إذا أخذنا بالفهم الغربي لمصطلح الدولة المدنية، بما يعنيه من تنظيم المجتمع، وحكمه بالتوافق بعيداً عن أي سلطة قمعية أخرى سواء أكانت دينية أم غير دينية؟ ألا يعني ذلك أن شرط العلمانية أساسي في الدولة المدنية إذا اختارت فعلاً تطبيق الحياد على الدين؟

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى