إشكالية العلاقة بين العرب وأوروبا
تمتد جذور العلاقة بين العرب والغرب إلى حقبٍ بعيدةٍ، ومع قِدم هذه العلاقة إلا أنّ تقييمها كان محلّ جدلٍ وخلاف بين كثير من المفكرين، فقد رأى بعضهم أنها تكشف في أحد أوجهها علاقة التابع بالسيّد، في حين رأى آخرون أنها تُمثِّل للدور الحيوي في النهضة التي حدثت في الشعوب العربيّة منذ أن بدأت البعثات تطرق أبواب أوروبا في بدايات القرن التاسع عشر، وإن كان فريق ثالث يَرى فيها منفعة تبادليّة للطرفين حتى وإن كان حجم الاستفادة من جانب العرب لم يكن بقدر الاستفادة التي حققها الغرب بكل تاريخه الاستعماري.
في كتابه الجديد المعنون بـ«لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب» الصادر عن مكتبة الأسرة، يقف المؤرخ خالد زيادة سفير لبنان في مصر، عند الإشكالية من جديد، متوخيًّا منهج المقارنة بين الماضي والحاضر؛ ليخلص إلى نتيجة تقريرية كما بلورها في عنوان الكتاب.
جذور العلاقة
الكتاب جاء في ثمانية فصول مسبوقة بمدخل وتصدير، وناقش فيها موضوعات تؤسِّس لطبيعة هذه العلاقة التي تبدأ بـ«الجوار»، و«التحديث»، و«النهضة»، و«الإصلاحية الإسلامية»، و«الثورة»، و«الأيديولوجيا»، و«الدولة»، و«الأصولية»، علاوة على خاتمة تتناول المراحل التاريخيّة للعلاقة وتفاعلها بدءًا من الجغرافيا، وانتهاء بربيعنا العربي، وملحق يشتمل على فهرس للأعلام. يتناول المؤلف في مدخله تاريخ العلاقة الإشكالية بين العرب وأوروبا، وهي إحدى المسائل المركزية التي يثيرها الوعي العربي والمسلم، وهي حصيلة الجوار الفريد، مركزاً على الإشكالية التي نمت وتجذّرت بين العرب من جهة وأوروبا والغرب من جهة أخرى، حتى بات أغلب الإنتاج الثقافي العربي تعبيرا عن هذه الإشكالية التي تحكم أوروبا والغرب. ولا ينكر المؤلف، وهو يتجوّل في نزهة بين فصول الكتاب، طبيعة هذه العلاقات التي اتّسمت في أغلبها بالعداء الذي عبّرت عنه أغلب خطابات التيارات السياسية على تباينها، وأن التطورات التي شهدها العالم العربي كانت بتأثير هذه العلاقة.
قد يكون الدافع الأساسي لهذه النظرة العقلانية والمُتَئِدَة لتاريخ العلاقة الإشكالية مرجعه، لهذه الهبّات والثورات التي حدثت في العالم العربي منذ عام 2011، والتي يعترف الكاتب بأنها لن تشهد استقرارًا قبل أن يتغيّر العالم العربي تغييرًا جذريًّا يضعه على طريق الحداثة والاندماج في العالم المعاصر، فلا يمكن على حدّ قوله أن نفهم مسارات هذا التغيّر الذي يجرى اليوم إلا بالعودة إلى الماضي والتاريخ، فالثورات تَدمج في الشعارات التي رفعتها بين ما هو متصل بالواقع الراهن، وما هو مُتّصل بشعارات ترجع إلى زمن النهضة، دون أن يغفل مرجع هذه الانتفاضات الداخلية والتدخلات الخارجية. فالكتاب يأتي في إطار بحثي ومعرفي يحاول إعادة النظر في تاريخ العرب الحديث في ضوء العلاقة مع أوروبا والحداثة، بإنجازاته وإخفاقاته وهو قراءة للتيارات الكبرى الفكرية والعقائدية ومحاولة فهم الحاضر على ضوء الماضي.
الإعجاب والاستيعاب
يشير الكاتب في فصل الجوار إلى أهمية جهود الريادة في استجلاء بدايات العلاقة كما ظهرت في كتاب “علم الدين” الأدبي لعلي مبارك، وكذلك كتابات شكيب أرسلان، وأيضًا كتابات أبي الحسن الندوي وأبي الأعلى المودودي، وهي العلاقة التي تمتد مسافة أربعة عشر قرنًا من الصراعات والتبادل والحروب، إلى تبادل البضائع والأفكار والمؤثّرات، وقد مرّت بمراحل من المدّ والجزر، وفي بعضها النسيان على نحو ما شهدته كتابات الجبرتي.
وينتهي المؤلف إلى أن شعوب العالم الإسلامي ما زالت أسيرة ثنائية التأخّر والتقدُّم، وصراع الشرق والغرب، وافتراق الإسلام عن المسيحية الغربية. وقد أخذت العلاقة بين الجانبين أبعادًا أخرى في ظلِّ الفتوحات الإسلامية وحضور الوجود الإسلامي، ما بين إعجاب بأفكار الغرب وتجربته وعلومه وتقنياته في أواسط القرن التاسع عشر، وإن كان رافضًا له. وعلى المقابل كان رد الفعل الأوروبي رافضًا للوجود الإسلامي، مع استيعاب لآداب العرب وعلمهم. لكن العلاقات وصلت إلى مسار آخر بعد التطورات الأخيرة، فمن قبل كانت التهديدات تأتي من الحدود أما اليوم فالتهديدات باتت تأتي من حضور المسلمين في المدن والقرى.
وفي فصل التحديث يشير المؤلّف إلى أن النهضة الأوروبية بدأت في وقت مبكر من القرن الرابع عشر دون إغفال لأثر العرب الحاسم فيها. إلا أن أوروبا طوّرت خلال قرنين من الزمن تقنيات عديدة، ومع تجدّد الخوف بسبب التوسعات العثمانية إلا أن ذلك لم يمنع أوروبا من تحقيق إنجازات في كل الميادين بعد أن استنفدت علوم العرب وآدابهم وفلسفاتهم، دون أن ينعكس هذا على العثمانيين رغم حجم التبادل التجاري الذي سمح بوصول التقنيات والاختراعات إليها.
في الفصل الثالث الذي ناقش فيه النهضة العربية مقارنة بالنهضة الأوروبية، يقف أولا عند مفهوم النهضة باعتبارها جملة التطورات التي عرفتها بعض الأقاليم العربية وخصوصًا مصر ولبنان وتونس منذ مطلع القرن التاسع عشر، ومثلما تم الرجوع إلى التراث اليوناني السابق للمسيحية في النهضة الأوروبية، فإن النهضة العربية أيضًا رجعت إلى التراث اللغوي والأدبي العربيين. اللافت أنه ليس ثمة إجماع على حقبة النهضة، فهناك مَن يُدمج بين محاولات الرواد من أمثال بطرس البستاني ورفاعة الطهطاوي مع أعمال الإصلاحيين مثل محمد عبده ورشيد رضا إلى الليبراليين والعلمانيين كفرح أنطوان وشبيلي شميل وصولاً إلى طه حسين وسلامة موسى.
الشيء اللافت أن التجارب التحديثية (مصر وتونس ولبنان والعراق وسوريا) بالرغم من تداخلها وبالرغم من التأثير المباشر لعصر التنظيمات العثماني على هذه التجارب، إلا أن التحديث سيباعد بين التجارب نظرًا لأسسها اللغوية ومحمولاتها الوطنية. لكن الشيء الجدير بالذكر أن جميع هذه التجارب كانت تصدر عن وسائل وأفكار وأهداف واحدة تقريبًا، كما أنها حصيلة المؤثرات والضغوط الأوروبية التي ولّدت القناعات بضرورة الأخذ بما أحرزته أوروبا من تقدم في ميادين المعرفة والعلوم والتقنيات، فأدوات النهضة واحدة في كل مكان متمثلة في المدرسة ثم المطبعة التي بدّلت مفهوم العلم والمعرفة. وكذلك الجمعية التي تضم نخبة ذات أهداف أدبية وعلمية وذات وظيفة اجتماعية، وأخيرا كانت اللغة العربية الفصحى، وكان تأسيس دار العلوم في القاهرة لتخريج المعلمين مكملاً لهذا الدور.
النهضة والقطيعة
تكمن أهمية النهضة كما قال المؤلف في الأفكار التي أرستها، والتي عالجها مفكروها بأساليب وعبارات مختلفة، ومن هذه فكرة التمدّن والتربية والوطن والتاريخية والحرية، والدستور. وقد تغيّر سؤال النهضة الذي اختصر كيف أخذ العرب عن أوروبا تقدّمها، في ثمانينات القرن التاسع عشر مع الإصلاحية الإسلامية: لماذا تأخرنا وتقدّم غيرنا؟ وإن انتهت حقبة النهضة بقطيعتين، الأولى داخلية والأخرى خارجية تتعلق بالتدخل الأجنبي بسبب الدين الداخلي. وقد جاءت الإصلاحية الإسلامية ليس كرد فعل على التأثير الأوروبي، الذي كان في سبعينات القرن التاسع عشر، وإنما كانت نتيجة لإدراك جديد للإسلام على ضوء الجغرافيا والتاريخ. وكذلك على ضوء تطور العلوم التطبيقية والفيزيائية والأفكار التي تهبّ من أوروبا.
يشير الكاتب إلى أن فكرة الجامعة الإسلامية أدّت إلى خفض نفوذ المؤسسة الدينية من جهة. كما كان لوجود جمال الدين الأفغاني أثره في ولادة التيار الإصلاحي الإسلامي، وكانت مصر أكثر أقاليم العالم الإسلامي التي راجت فيها أفكار الأفغاني، والذي كان سباقًا فيها إلى التنبيه بخطر أوروبا على الإسلام، وهو ما ترجمه في مقالاته الملتهبة في “العروة الوثقى” التي تحذر المسلمين من خطر أوروبا، من حيث اعتباره أن إنكلترا هي عدوة المسلمين. أما محمد عبده فقد ارتأى أن الإسلام دين يتفوق على الديانات الأخرى، في حين كان لرشيد رضا دورٌ مهمٌّ في بلورة تيار الإصلاح، ويراه اتجاهًا من ضمن اتجاهات أخرى. وينتهي المؤلف إلى أن الإصلاحية العربية إنجاز عربي بل كانت أساس نشوء العروبة المشرقية التي شارك فيها الإصلاحيون الذين أعادوا التفكير في التاريخ العربي.
إخفاقات التيارات الأيديولوجية
يلفت المؤلف إلى أن إلغاء الخلافة الإسلامية كان له الأثر الكبير في طبقة من طبقات الوعي الإسلامي بالشعور بالهزيمة، وقد فاقم هذا الشعور بالهزيمة إخفاق إقامة الدولة العربية الذي أُرجع إلى مؤامرة التقسيم الاستعماري، وفي ظل هذه الأجواء ولدت جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 علي يد حسن البنا، في ما يمكن اعتباره نكوصا ورجعة عن أفكار التنوير، وبناء هذه الجماعة لم ينفصل عن تأثير مؤسسها، الذي كان له الجهد في نشر أفكار الجماعة في الأقاليم. وتمثلت المرحلة الثانية في قيادة سيد قطب، والتي أظهرت عداءً مسلحا ومتطرفا للسلطة، وفي المرحلة الثالثة في سبعينات القرن العشرين لم تعد جماعة الإخوان هي الفرقة الإسلامية الوحيدة التي تستقطب نشاط الإسلاميين، فقد ظهرت فرق كثيرة. فلم تقتصر الظاهرة الإسلامية على الإسلام السياسي العنيف وحده، إذ شهد العقد الأخير من القرن العشرين عودة نشاطات الجماعات الصوفية، والجماعات الخيرية وانتشار المظاهر الإسلامية كالحجاب للمرأة واللحى للرجال، وقد كانت الأجواء مهيأة ليشق الإسلام الأصولي طريقه داعيا إلى إقامة المجتمع الإسلامي في واحدة من اكثر التحولات الرجعية في التاريخ العربي الحديث.
ورغم رفع هذه الحركات الإسلامية لشعار “الإسلام هو الحل” إلا أنها عجزت بطبيعة الحال، عن تقديم بديل اقتصادي للنظام الرأسمالي. ومع أن ثورات الربيع العربي أتاحت للأحزاب الدينية المشاركة في السلطة إلا أنها مُنيت بإخفاقات كثيرة. والمؤلف يشير إلى إخفاقات كافة التيارات الأيديولوجية من اشتراكية وقومية والتي ولدت في النصف الأول من القرن العشرين، وراجت في النصف الثاني منه.
مجلة الجديد اللندنية