إلحاح على “رومانسية الحدود”

 

تصرّ وتكرر باريس لعمان انها تريد ان تحمي حدود الأردن مع سوريا دون ان تُطلع احداً على الاخطار المحدقة التي قد تراها فرنسا اليوم قادمة من الجنوب السوري للأردن مثلا دون ان يدركها الاردنيون أنفسهم، العرض الفرنسي يتكرر لمرتين خلال اقل من أسبوعين حيث حمله بالبداية وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان، ثم كرره الرئيس الفرنسي نفسه ايمانويل ماكرون.

الاقتراح وفقا لمنطوق لودريان من عمان في بداية آب يتضمن “تعزيز أمن الحدود الأردنية، بالإضافة إلى منح وقروض ومساعدات لتكميل بناء الجهاز الأمني الأردني”، الامر الذي لم يصدر عن السلطات الأردنية أي تصريحات او تفصيلات بخصوصه، رغم ما بدا وكأنه إصرار من وزير الخارجية الفرنسي في ذلك الوقت على رؤية عاهل الأردن الملك عبد الله الثاني ونقل الخطة له. اجتماعه بالملك تم ترتيبه على عجل- او على الأقل هكذا بدا-، حيث التقاه الملك بزيه العسكري الذي كان يرتديه في زيارته الى القيادة العسكرية بعد عودته من اجازته الطويلة.

نقيض الترتيب المستعجل للقاء وزير الخارجية الفرنسي مع عاهل الأردن على عجل، يعني ان الملك تعمّد لقاءه بالزي العسكري، وهنا تكون دلالة بحث معمق في التفاصيل العسكرية للمقترح، الامر الذي يتنافى ببساطة مع تكرار الرئيس الفرنسي للعرض في مكالمته الهاتفية مع الملك حين هاتفه الأربعاء للعزاء بضحايا عمليتي الفحيص والسلط، وكرّر عرض “حماية الحدود بين الأردن وسوريا.”

طبعاً لا علاقة بين احداث السلط والفحيص وبين المقترح الفرنسي، فبالاضافة الى كون المقترح أساسا ظهر قبل الحادثتين، فالحدود لم تكن معبر المتهمين في الحالتين، او ليس هناك أي ادلة معلنة على ذلك على الأقل، والمتهمون في الحادثتين أردنيين ولم يثبت انتماؤهم لاي تنظيم رغم حملهم لفكر تنظيم الدولة الاسلامية المعروف بـ “داعش”. هذا يفتح مجالاً واسعاً لسؤال ماذا تريد فرنسا من الأردن في السياق المذكور، خصوصاً وهي تتحدث حصراً عن الحدود مع سوريا وليس العراق مثلا، رغم ان الحدود اليوم مضبوطة أكثر من أي وقت مضى منذ اندلاع الازمة.

ماذا تريد باريس من الأردن أم سوريا؟

في الإجابة عن سؤال ماذا تريد باريس، يجب أولا التأكد بأن عمان ليست الهدف ابداً من هذه الرغبة والإصرار، وانما سوريا في حين لا تتجاوز عمان كونها “ممر ومعبر” للفرنسيين. فعمان لو كانت الهدف لاختارت باريس حماية كل الحدود الأردنية وتأمينها، في حين يمكن تذكر ان باريس خسرت سوريا كدولة ونظام في الازمة الاخيرة، بعدما بذلت جهوداً حثيثة لاستعادتها قبل ذلك وتحديدا في عام 2008.

السيناريوهات التي تجيب عن “لماذا” كثيرة بالضرورة، فسوريا كانت لسنوات قبل الازمة واحدة من الدول التي تربطها بفرنسا علاقات جيدة جداً، حيث كان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي هو عراب إعادة العلاقات بين سوريا ولبنان قبيل اندلاع الازمة السورية عام 2011، حيث استقبل ساركوزي الرئيس السوري بشار الأسد مع نظيره اللبناني ميشال سليمان في ذلك الوقت، وأعلن سوريا كدولة محورية في الشرق الأوسط (عام 2008).

في ذلك الوقت، احتضنت فرنسا قمة “الاتحاد من اجل المتوسط”، وقبل الأسد حضور القمة رغم وجود رئيس الوزراء الإسرائيلي يهود أولمرت في ذلك الوقت معه على طاولة واحدة بسبب طلب ساركوزي، واستضاف بعدها الرئيس الفرنسي ذاته في القصر الجمهور في دمشق. بعد كل هذا بالنسبة للنظام السوري فقد خذلته فرنسا.

في الازمة التي لا تزال خواتيمها مستمرة، لم تكتفي فرنسا في الوقوف ضد النظام السوري وكانت الداعية لاقامة مجموعة “أصدقاء سوريا” وعلى لسان ساركوزي نفسه، وانما شاركت في الضربة الامريكية الأخيرة. فرنسا قلقة عملياً من أي اعلان محتمل لانهاء المهمة العسكرية للتحالف الدولي في المنطقة، وهو الامر المرهون تماماً بقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي ثبت في الوجه القاطع انه لن يشاور الحلفاء اذا ما قرر شيئا.

إعلان البيت الأبيض ليل الجمعة السبت (17 اب/ أغسطس) عن بقاء القوات الامريكية حتى هزيمة تنظيم الدولة- داعش، لا يعني أي ضمانة بالضرورة لبقاء الفرنسيين على مقربة من سوريا او فيها، حيث اعلان الهزيمة المذكورة قد يحصل ببساطة حال انهاء معارك ادلب الوشيكة، وبالتالي يختفي التحالف الدولي وينعدم مسوّغ وجود القوات الفرنسية على مقربة او في سوريا.

ما موقف عمان؟

بهذا المعنى ففرنسا تبحث لنفسها عن موطئ قدم في اقرب نقطة للدولة السورية، وهو الامر الذي لن تستطيعه دون قبول الطلب اردنياً، وهو ما يبرر الحاح باريس وفي هذه الفترة تحديداً، بعد حسم كبير للمعارك في سوريا لصالح النظام وحلفائه (ما يعني ان فرنسا مضطرة لاحقاً للتعامل معه لول من وراء حجاب)، وقبل اعلان النصر النهائي الذي لن يعود بعده هناك ما يبرر الوجود الفرنسي “لحماية الحدود”.

الأردن وعلى الأرض احتضن خلال سنوات الازمة السورية سلسلة من الاستثمارات الفرنسية الضخمة في مجالات مشتقات البترول والمطار والانشاءات وهي التي قدّرها وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي بـ 2 مليار دولار في مؤتمره مع لودريان قبل أسبوعين في عمان. هذه الاستثمارات قابلة للزيادة بالضرورة اذا قبلت عمان بالعرض الفرنسي ولكن الأهم هي مفاضلة اذا ما كانت عمان ترغب فعلا بخوض مغامرة من هذا النوع قد تزيد طين العلاقات بينها وبين دمشق “بلّة”.

عمان حتى اللحظة تبدو مع دمشق في محاولات يائسة لاستعادة العلاقات فحتى مرور اللاجئين منها بات معقّدا ويدخل في شدّ وجذب التصريحات على فتح معبر نصيب- جابر الذي يبدو انه لاينتهي. وبهذا المعنى فلا تحتاج العاصمة الأردنية التي تربطها مع روسيا علاقات مميزة وصادقة ان تقدم على خطوة من هذا الوزن دون حسمها مع الشريك الروسي على الأقل، والذي يعِد عمان بعلاقات افضل ويبحث لها عن دور كبير في إعادة الاعمار في سوريا.

هذا لا ينفي ان عمان وبسهولة تستطيع استخدام الورقة الفرنسية لابداء حسن النوايا مع السوريين وتشاركهم إياها وتستمع الى رأيهم فيها، حيث حتى الـ 2 مليار استثمارات فرنسية في الأردن لا يضاهوا عودة تشغيل المعبر الأردني السوري وانسياب الحركة التجارية بين البلدين، اذا ما ارادت عمان التصرف ببراغماتية.

ختاماً، فرنسا تريد عمليا استغلال عمان لاستعادة دورها في المنطقة، عبر تحويل الحدود الأردنية السورية الى ناطقة بلغتها التي تصنف ضمن اللغات “الرومانسية”، هذا لا يمنع ان تستغل ذلك عمان بذكاء لتصحيح مسارات عدّة تبدو متشابكة مع الجانب السوري دون قفزة في الهواء مع الفرنسيين. الأهم ان هذه الخطوة تحتاج عمان للتشاور فيها وان لا تقررها دون تنسيق مع السوريين وحلفائهم، حيث خطوة منفردة كهذه من شأنها ان تعيد الجميع للوراء، وهو ما يظهر ان عمان تدركه فعلاً.

صحيفة رأي اليوم الألكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى