“إمبراطورية الدم” يكشف بالوقائع والوثائق أكاذيب العثمانيين
هل كان الوجود العثماني في المنطقة العربية “فتحا” أم “غزوا”؟ وهل كانت الدولة العثمانية إمبراطورية أقرب إلى النمط البيزنطي، أم “خلافة” إسلامية كما حاول العثمانيون القدامى والجدد الترويج؟ هل حقا ساهم الوجود العثماني في المنطقة العربية على مدى ما يقارب أربعة قرون في حماية المنطقة من الاستعمار الأوروبي، أم أنه ساهم في تقديم الدول العربية فريسة سهلة للاستعمار الأوروبي، بسبب سياسات التهميش والإضعاف واستنزاف الثروات المادية والبشرية التي اتبعها العثمانيون على مدى سنوات حكمهم للمنطقة؟
وهل حقا تصدى العثمانيون للمخططات الصهيونية لإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، أم أنهم كانوا، عن عمد أو بسبب الفساد المستشري في أوصال الباب العالي خاصة في المراحل الأخيرة من عمر الدولة العثمانية، أحد الأسباب التي أدت إلى قيام إسرائيل على الأراضي الفلسطينية؟
هذه الأسئلة وغيرها يحاول كتاب “إمبراطورية الدم” للكاتب والباحث المصري د. أسامة السعيد أن يقدم إجابات عنها، من واقع المصادر التاريخية، ومن خلال إعادة قراءة الوقائع التاريخية بعيدا عن القراءة الأيديولوجية التي حكمت الكثير من التناول الفكري والتاريخي للوجود التركي العثماني في المنطقة العربية.
ويرفض الكاتب بداية تلك القراءة الأيديولوجية التي تقدمها الكثير من القوى السياسية والفكرية، وبخاصة من القوى الإسلامية، التي تحاول تضخيم الدور العثماني، واستخدام تحليلات مضللة حول الأدوار الإيجابية التي قام بها العثمانيون في المنطقة، متجاهلين الكثير من الوقائع التاريخية التي تؤكد أن الوجود العثماني لم يختلف عن أية قوى استعمارية مرت بالمنطقة، وأن الحديث عن الرعاية العثمانية للخلافة الإسلامية كان بمثابة نوع من الدعاية السياسية، استخدمها العثمانيون القدامى والجدد على حد سواء، من أجل التصدي للانتقادات المتصاعدة للدور العثماني في استنزاف ثروات الولايات التابعة للدولة العثمانية، وكذلك الارتهان للقوى الغربية، فضلا عن تفريغ المجتمعات العربية من القوى البشرية والفكرية، ونشر الطائفية والمذهبية السياسية والدينية.
وفي كل فصول الكتاب العشرة يحاول الكاتب أسامة السعيد إسقاط السياق التاريخي على الواقع، ليشير بوضوح إلى أن ذلك التاريخ لم يمت، بل إنه في بعض الأحيان لا يزال حيا، وأن الكثير من الممارسات التي يقوم بها العثمانيون الجدد في ظل حكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا منذ العام 2002 هي محاولة لإعادة إنتاج ذلك التاريخ، وإدعاء وجود حقوق تاريخية ودينية للأتراك في المنطقة العربية، وهو ما يتصدى له الكاتب بأدلة تاريخية مستندة إلى دراسات ومراجع قديمة وحديثة.
يفند الكتاب كذلك الكثير من الإدعاءات التي تقوم عليها دعاية العثمانية الجديدة، ومن بينها أن الوجود العثماني كان “فتحا”، حيث يشير إلى أن فكرة الفتح ارتبطت تاريخيا بنشر الإسلام في المجتمعات غير الإسلامية، بينما كان دخول العثمانيين إلى مصر والشام بعد نحو 900 عام من دخول الإسلام إلى تلك المناطق، وأن مصر والشام على وجه التحديد كانتا منارتين إسلاميتين كبيرتين قبل أن تعرف القبائل التركمانية التي ينتمي إليها العثمانيون الإسلام، فضلا عن أن مصر وجيوشها في مراحل مختلفة ساهمت في حماية الإسلام من الأخطار الصليبية والمغولية قبل أن تظهر الدولة العثمانية للوجود.
ويؤكد الكتاب أن اتجاه العثمانيين في عصر سليم الأول نحو الممالك العربية التي كانت تحت سيطرة الدولة المملوكية في تلك الفترة لم تكن سوى حرب توسعية، هدفها الاستيلاء على المزيد من الأراضي والثروات وإضافتها للدولة العثمانية القوية في تلك الفترة على حساب الدولة المملوكية التي كانت تعاني ضعفا واضحا نتيجة المشكلات الاقتصادية بسبب تحول طرق التجارة بعيدا عن أراضيها، وكذلك نتيجة الهشاشة السياسية بسبب صراعات الحكم الداخلية.
ويشير إلى أن السلطان سليم الأول الذي كان يواجه صعوبات كبيرة في التوسع في الأراضي الأوروبية على نهج جده السلطان محمد الفاتح، ورغبته العارمة في تحقيق أية انتصارات تحسب له، كانت دافعه الأول للاتجاه نحو أراضي دولة مسلمة وغير معادية له، وأن السلطان سليم رفض نجدة مسلمي الأندلس في غرناطة آخر معاقل المسلمين هناك، وهو ما يعتبره الكاتب كان أولى بأن يوجه إليه العثمانيون جيوشهم لنجدة إخوتهم المستضعفين في الأندلس، إن كانوا حقا كما يقولون يريدون نصرة الإسلام، أو كان دافعهم حماية الدين، بدلا من توجيه جيوشهم نحو أراضي دولة مسلمة.
كما يستعرض الكتاب الكثير من الوقائع التي تكشف حقيقة الأطماع العثمانية في ممتلكات الدولة المملوكية، والسلوك العدواني الذي اتبعه العثمانيون عند دخولهم إلى المناطق العربية، بداية من استخدامهم للخونة من قادة المماليك لتسهيل تفتيت الجيش المملوكي، مرورا بإدعاء أن الوجود العثماني كان تلبية لمطالب الشعوب العربية، على الرغم من أن كتب التاريخ ومصادره المعاصرة لتلك الفترة تكشف بوضوح حجم المقاومة الشعبية، وبخاصة في مصر للغازي العثماني، وأن كثيرا من الشعارات الشعبية أطلقت في تلك الفترة للتعبير عن الرفض الجماهيري للوجود العثماني، ومنها الشعار الذي كان يردده المصريون ومذكور في حوليات ابن اياس وغيره: “يا رب يا متجلي .. إهلك العثمانللي”، فضلا عن قتل العثمانيين لنحو 10 آلاف مصري في الأيام الأربعة الأولى لدخولهم إلى القاهرة عام 1517!
ومن أكثر الفصول التي تكشف حجم الدعاية التي يمارسها أنصار العثمانية الجديدة، وبخاصة من تيارات الإسلام السياسي، الفصل الذي يعنونه الكاتب “فلسطين .. ألعوبة العثمانيين”، فيشير إلى أنه لا توجد قضية أكثر من القضية الفلسطينية استخدمت في خداع العقل العربي، وترويج الكثير من الزيف من أجل إقناع العرب بأن الأتراك قاموا بحماية فلسطين، ويستند الكاتب إلى العديد من الوثائق التي تشير إلى دور العثمانيين في احتضان اليهود وتوطينهم في الأراضي الفلسطينية، وأنه تم تأسيس شركة تحت مسمى الشركة العثمانية اليهودية للأراضي، كانت تتولى نقل الأراضي التي تؤول ملكيتها إلى الباب العالي، إلى يد المالكين الصهاينة في فلسطين، وأن معظم المستوطنات الصهيونية التي أقيمت في فلسطين كانت على أراضي مملوكة للحكومة العثمانية التي كان الفساد والرشوة سبيلا ميسورا للحركة الصهيونية لنيل ما تريده، خاصة في ظل التعاطف العثماني مع اليهود تاريخيا، منذ عصر السلطان بايزيد الثاني والد السلطان سليم.
وينتقل الكاتب إلى تفنيد المواقف التي تصدر عن حكومة حزب العدالة والتنمية، والتي تحاول أن تصدر للرأي العام العربي مظهرا معاديا لإسرائيل، فيشير إلى أن تلك المواقف لا تعدو ان تكون مجرد مواقف شكلية أمام الكاميرات، بينما السياسات الحقيقية تشير إلى استمرار النهج التركي في بناء وتوطيد علاقات استراتيجية مع إسرائيل، ولا فرق هنا بين الحكومات العلمانية أو عهد الحكم العسكري، وبين حكم إردوغان، فالعلاقات الاستراتيجية بين أنقرة وتل أبيب كانت دوما محددا مركزيا للسياسات التركية.
ويوضح الكاتب أن تركيا كانت ثاني دولة ذات أغلبية إسلامية – بعد إيران – تعترف بدولة إسرائيل عام 1949، كما أنها كانت ولا تزال الشريك التجاري والعسكري الأكبر لتل أبيب في المنطقة، وأن تركيا شاركت في تطبيق سياسية “تطويق دول الطوق” التي وضعهتها إسرائيل للرد على إعلان الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، وأن تلك السياسة سعت إلى محاصرة دول الطوق العربي بدول مثل تركيا وإيران وأثيوبيا، وأن تركيا في عهد رئيس وزرائها (الذي تم إعدامه عام 1960) عدنان مندريس، دعمت رفض الولايات المتحدة تمويل إنشاء السد العالي في مصر، كما وقفت ضد استقلال الجزائر، واعتبرت الثورة الجزائرية فعلا خارجا عن القانون، واعتبرت في الأمم المتحدة القضية الجزائرية مسألة فرنسية داخلية.
ويرصد الكتاب أيضا إزدواجية السياسة التركية الحالية، ففي الوقت الذي كانت المؤشرات الظاهرية تشير إلى توتر العلاقة بين أنقرة وتل أبيب في أعقاب أزمة الاعتداء على السفينة التركية “مافي مرمرة”، كانت العلاقات التجارية والعسكرية التركية في تصاعد مستمر، ففي ذلك العام 2010 الذي شهد الاعتداء على الناشطين الأتراك على متن السفينة، زاد التبادل التجاري بنسبة 19%، وفي 2016 وقعت تركيا وإسرائيل اتفاقا يقضي بدفع الجانب الإسرائيلي 21 مليون دولار تعويضات للضحايا الأتراك، في مقابل استئناف العلاقات التجارية والعسكرية بكل جوانبها، واعتراف أنقرة بشرعية الحصار الإسرائيلي لغزة، بل وقامت تركيا بطرد عناصر تابعة لحركة حماس كانت تقيم على الأراضي التركية، وهو ما اعتبره المراقبون والمسئولون الإسرائيليون ثمنا بخسا للمكاسب التي تحصدها إسرائيل من التعاون مع تركيا.
ويشير الكتاب إلى أن الدولة العثمانية، والعثمانية الجديدة، تقومان على استخدام نهج العنف، سواء داخليا من خلال استخدام العثمانيين الجدد لقانون “الفاتح” الذي يقضي بأن يقتل من يتولى منصب السلطان كل إخوته، حتى لو كانوا أطفالا أو رضع! كما أهدر العثمانيون دماء ملايين العرب سواء في عمليات التعذيب الممنهجة والمذابح الدموية التي كانوا ينفذونها بحق كل من يعترض على سياساتهم، كما فعلوا في الشام، وبحق الأرمن ومسيحيي الشرق، او حتى بحق المواطنين العرب من المسلمين، الذين استخدموهم في مغامراتهم العسكرية، وبخاصة في الحرب العالمية الأولى، ولقي مئات الشباب العربي مصرعهم في معارك العثمانيين خلال تلك الحرب، التي استخدم فيها العثمانيون الدعاية الدينية بشكل مكثف لحشد الشباب العربي.
ويحفل الكتاب بالكثير من الحقائق التي تفند الدور التركي في المنطقة قديما وحديثا، وجوهرية الصراع بين تركيا ومصر، وكيف تنظر تركيا إلى مصر على أنها المعادل الموضوعي لها في المنطقة، وأن قوة مصر هي خصم من رصيد الوجود التركي في المنطقة، كما يتطرق الكتاب إلى أوجه التباين السياسي والفكري بين المشروعين المصري الذي تتبناه دولة 30 يونيو، وبين العثمانية الجديدة التي تتبناها حكومة حزب العدالة والتنمية، وكيف أن الخلافات بين المشروعين تبدو أكبر وأعمق من مجرد اختلاف في وجهات النظر حول العلاقة مع جماعات الإسلام السياسي، أو الموقف في ليبيا.
يذكر أن هذا الكتاب هو الإصدار العاشر للدكتور أسامة السعيد الذي يشغل منصب نائب رئيس تحرير جريدة الأخبار المصرية، ومدير مركز أخبار اليوم للتدريب والاستشارات، كما أنه حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة، وله العديد من المؤلفات في مجال الإسلام السياسي، والتاريخ السياسي المعاصر للمنطقة العربية، خاصة في مرحلة الثورات العربية، كما حصل على العديد من الجوائز الأدبية والصحفية من مصر وخارجها.
ميدل إيست أونلاين