كتب

إيتالو كالفينو: بغصةٍ في نفسي شرعت في كتابة ‘الفسكونت المشطور’

محمد الحمامصي

تعبر ثلاثية الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو “الفسكونت المشطور”، و”البارون طالع الشجرة”، “فارس بلا جواد”، عن واقع معين في إطار تنويري واستخدام الخيال والخرافة بمفهومها الأخلاقي والتربوي، وتؤكد اتجاه ـ كالفينو ـ إلى تناول العلاقات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية المحيطة به كلما بدا، وكأنه يبتعد عما حوله أو تناول عصورا قد ولت منذ زمن بعيد. في هذه الثلاثية يستمتع كالفينو بالقص ويتلذذ بعرض ثقافته ولكن ما يثري معانيها ويجعلها أكثر تأثيرا هو الجانب الأخلاقي الذي يمثل أساسها الذي لا يستهان به.

 

المترجم د.أماني فوزي حبشي ترجمت رواية “الفسكونت المشطور” لتصدر أخيرا عن مؤسسة هنداوي، كما ترجمت مقدمة كالفينو للثلاثية التي وضعها للروايات الثلاثة بعد جمعه لها في مجلد واحد بعنوان “أسلافنا”، وهنا نتوقف عند رؤيته لما يخص هذه الرواية ـ “الفسكونت المشطور” ـ يقول “لسبب ما بدأت بقصص المناضلين من رجال المقاومة؛ إذ إنها كانت تحقق نتائج ناجحة حيث تمتلئ قصصهم بالمغامرات والحركة، وطلقات الرصاص، كانت قاسية ومرحة إلى حد ما، مثل سمة هذا العصر، وتتميز بروح الإثارة التي تشبه الملح في الرواية. وكتبت أيضًا رواية قصيرة عام 1946م بعنوان “مدق أعشاش العنكبوت”، وفيها أخذت أصبغ كل شيء بقسوة الواقعية الجديدة، ولكن بدأ النقاد يقولون إنني “أسطوري”، وفهمت أصول اللعبة؛ أدركت جيدًا أن الكاتب يحصل على هذا التقدير عندما يكتب بشكل أسطوري وخرافي عن مشاكل الطبقة الكادحة، أو عن أخبار الحوادث، ولكنه لا يمكن أن يكون أسطوريًّا إذا كتب عن القصور والبجع؛ إذ إن ذلك لا يتطلب أي مهارة.

ويوضح “هكذا حاولت أن أكتب روايات تتبع اتجاه الواقعية الجديدة، تحكي عن حياة الشعب في تلك الأعوام، ولكنها لم تحظَ برضاي فتركتها كما هي بخط اليد في درج مكتبي. فإذا أخذت أحكي بنبرة مرحة، كان الأمر يبدو مصطنعًا، فالحقيقة كانت معقدة جدًّا، وكان كل أسلوب أدبي استخدمته للتعبير عن هذا الواقع يبدو مصطنعًا. وإذا استخدمت نبرة أكثر جدية وتأملًا كان كل شيء يتحول إلى اللون الرمادي، للحزن، وكنت أفقد أي بصمة تشير إليَّ، أي الدليل الوحيد على أن من يكتب هو أنا وليس شخصًا آخر. لقد كان جرس الأشياء هو الذي تغيَّر؛ فلقد تباعد زمن الحياة المنفلتة إبان فترة المقاومة وفترة ما بعد الحرب، ولم يعد المرء يصادف كل تلك الأنماط الغريبة التي كانت تحكي قصصًا استثنائية، أو ربما كنت ما زلت أصادفهم، ولكنني لم أعد أتعرف على نفسي من خلالهم ومن خلال قصصهم. واتخذت الحقيقة مواقف مختلفة وطبيعية في مظهرها الخارجي، وأصبحت تلك الحقيقة حقيقة مؤسسية، فلم يعد من السهل رؤية الطبقات الشعبية إلا من خلال المؤسسات التي تمثلها، وأصبحت أنا أيضًا منضمًّا إلى فئة لها وضعها القانوني، فئة المثقفين في المدن الكبرى، بحللهم الرمادية وقمصانهم البيضاء. ولكني فكرت: ما أسهل إلقاء اللوم على الظروف الخارجية، ربما لم أكن كاتبًا حقيقيًّا، ربما كنت شخصًا كتب مثل كثيرين مأخوذًا بفترة التغييرات؛ ثم انطفأ بداخله هذا الحماس.

ويضيف كالفينو “هكذا، بغصةٍ في نفسي وبإحساس المرارة من كل شيء حولي، شرعت في كتابة ‘الفسكونت المشطور’ عام 1951 لاستغلال وقت الفراغ. لم يكن لدي أي غرض ولم أكن أنوي اتباع اتجاه أدبي معين دون غيره، ولم تكن نيتي أيضًا استخدام الرموز الأخلاقية أو حتى العمل السياسي بمعناه الضيق. كنت بالفعل متأثرًا ـ وإن لم أدرك ذلك ـ بالجو السائد في تلك الأعوام، فلقد كنا في قلب الحرب الباردة، وكان يسود حولنا نوع من التوتر والتمزق الأبكم اللذين لم يظهرا في صورة مرئية، ولكنهما كانا يسيطران على نفوسنا. ودون أن أدري وجدت نفسي أكتب رواية خيالية تمامًا، وأعبر ليس فقط عن معاناة تلك اللحظة الخاصة ولكن أيضًا عن محاولة الخروج منها؛ أي أنني لم أقف مكتوف اليدين أمام الواقع السلبي ولكنني نجحت في أن أبث فيه الحركة والغرابة، القسوة والاقتصاد في التعبير والتفاؤل القاسي؛ وهذه جميعًا كانت عناصر أدب المقاومة. لم يكن لدي في البداية سوى هذا الدافع، مجرد قصة في ذهني أو الأفضل أن نقول إن القصة كانت مجرد صورة في ذهني. ففي أصل كل رواية كتبتها كانت هناك صورة تدور في رأسي ـ لا أعرف كيف ولدت ـ وأجد نفسي مهمومًا بها ربما لسنوات. ورويدًا رويدًا أجد نفسي أعمل على تطوير تلك الصورة لتصبح قصة لها بداية ونهاية، وفي الوقت ذاته أقنع نفسي بأن هذه القصة تحتوي على معنًى، ولكن عادةً ما كانت هاتان العمليتان تتمَّان بشكل متوازٍ ومستقل. وبمجرد أن أبدأ الكتابة يتكشف لي كل ما كان معلقًا كما أشرت توًّا. بالكتابة فقط يمضي كل شيء في ذهني إلى مكانه الصحيح”.

ويتابع “منذ فترة قليلة كنت أفكر في رجل انشطر طوليا إلى نصفين، وكل نصف منهما ذهب إلى حال سبيله. هل هي قصة جندي في حربٍ حديثة؟ ولكن استخدام أسلوب الهجاء فيما يتعلق بهذه الحرب قد صار مستهلكا، ورأيت أنه من الأفضل تناول حرب من الزمن البائد، الأتراك مثلًا. وماذا عن الإصابة؟ هل تكون بسبب سيف؟ لا، الأفضل أن تكون بسبب طلقة مدفع، وهكذا سيكون الاعتقاد أن هناك جزءًا قد دُمِّر تمامًا، ولكنه سيظهر فيما بعد. ولكن أكان لدى الأتراك مدافع؟ نعم، ليكن موضوعنا هو الحروب بين النمسا والأتراك في نهاية القرن السابع عشر، في عصر الأمير أوجينيو. وعلى أن يبقى كل شيء مبهمًا إلى حد ما، فالرواية التاريخية لم تكن تهمني (بعد). إذن ينجو أحد النصفين، ويظهر النصف الآخر في وقت لاحق. ولكن كيف يمكن التمييز بينهما؟ إن طريقة التأثير الأكيدة هي أن يكون هناك نصف طيب ونصف شرير، تضاد على طريقة ستيفنسون مثل دكتور جيكل ومستر هايد، أو الأخوين في رواية سيد بالانتراي. وهكذا نظمت القصة نفسها على أساس شكل هندسي دقيق. وكان يمكن للنقاد أن يمضوا في الطريق الخاطئ ويقولوا إن ما كان في ذهني هو عرض فكرة الخير والشر. لا لم يكن هذا ما أريده مطلقًا، بل إنني لم أفكر لحظة واحدة في فكرة الخير والشر. فكما يفعل الرسام عندما يستخدم التضاد في الألوان ليظهر شكلًا ما، هكذا استخدمت أنا تضادًّا روائيًّا واضحًا لأظهر ما يهمني؛ أي الانقسام. فالإنسان المعاصر ممزق، منقسم، غير مكتمل، بل عدو لنفسه، يصفه ماركس بأنه ‘مغترب’ وفرويد بأنه ‘مُقمع’، فإن حالة التناغم القديمة قد ولت، وبدأنا نتطلع إلي نوع جديد من التكامل. تلك هي النواة الأيديولوجية الأخلاقية التي كنت أريد إضافتها بوعي للقصة، ولكن بدلًا من أن أعمل على تعميقها على الصعيد الفلسفي، فضلت أن أعطي للرواية هيكلًا يعمل عمل آلة متكاملة، وأن أعطيها جسدًا ودمًا من التراكيب الخيالية الغنائية.

ويؤكد كالفينو “لم أستطع أن أحمل البطل وحده نموذج أنماط تمزق الإنسان المعاصر؛ إذ إنه كان يكفيه أن يمضي قدما بأحداث القصة وآليتها، لذلك وزعت هذا التمزق على بعض الشخصيات المحيطة به. كانت إحدى تلك الشخصيات هي شخصية المعلم بيتروكيودو النجار، والتي يمكن أن أقول إنها الشخصية الوحيدة التي لها دور أخلاقي خالص وبسيط. وهذا الشخص يصنع مشانق وأدوات تعذيب دقيقة ومتطورة، محاولًا ألا يفكر في مجال استخدامها، هكذا مثلما يفعل العالم أو التقني اليوم عندما يصنع قنابل ذرية أو حتى عادية دون أن يعرف في أي مجتمع ستستخدم، ويظل التزامه الوحيد هو “إجادة صنعته” غير كافٍ لتهدئة ضميره. وموضوع العالم “الصرف” المحروم (أو غير الحر) من التكامل مع الإنسانية الحية يظهر أيضًا في شخصية الدكتور تريلاوني، والتي ظهرت بطريقة مختلفة تمامًا وكأنها صورة مصغرة لنمط روبرت لويس ستيفنسون، تستدعيها كل الدلالات الأخرى لهذا المناخ، واكتسبت بذلك نوعًا من الاستقلالية النفسية”.

ويكشف أن كل الشخصيات الأخرى لرواية الفسكونت المشطور لا معنى لها سوى وظيفتها في الحبكة الروائية. بعضها خرج بصورة جيدة بالفعل ـ أي اكتسب حياة حقيقية ـ مثل المربية سيباستيانا، والفسكونت أيولفو، أيضًا بالرغم من ظهوره الخاطف. أما عن شخصية الفتاة (الراعية باميلا) فقد كانت مجرد نموذج للواقعية الأنثوية في مقابل لا إنسانية المشطور.

ويتساءل: ماذا عن مداردو المشطور؟ ويقول “إنه كان يتمتع بحرية أقل من الآخرين؟ فمسيرته محددة مسبقًا لتتفق مع الحبكة الروائية. ولكن بالرغم من كونه محدودًا هكذا إلا أنه نجح في أن يظهر غموضًا عميقًا يتوافق مع شيء ما لم يكن قد اتضح بعد في ذهن المؤلف. كان هدفي المؤكد هو محاربة كل انقسامات الإنسان، والبحث عن الإنسان الكامل. ولكن الواقع أن مداردو الكامل الذي ظهر في البداية، بعدم حسمه، لم تكن له شخصية أو شكل، أما مداردو الذي أعيد اكتماله في النهاية فلم نعرف عنه شيئًا؛ ذلك أن الذي عاش في الرواية هو فقط مداردو المنقسم على ذاته. والنصفان، هاتان الصورتان المتضادتان لما هو غير إنساني، صارا أكثر إنسانية؛ فلقد كانا يحركان علاقة متضادة، النصف الشرير التعس يُثير الشفقة، والنصف الطيب الأكثر تألمًا يثير السخرية، وكنت أجعل كلًّا منهما يتغنى بمديح الانقسام وكأنه أفضل طريقة للوجود، ويصب اللعنات على “الكمال البليد”، وذلك من خلال وجهتَي النظر المتضادتين. أيكون السبب هو أن الرواية ولدت في عصر من الانقسامات فأصبحت تمثل على الرغم منها الضمير الممزق؟ أو بالأحرى لأن التكامل الإنساني الحقيقي لا يكمن في سراب لكمال أو كونية غير محددين أو متاحين، وإنما يكون في البحث المتعمق المدقق فيما نحن عليه طبيعيًّا وتاريخيًّا وفي ذلك الاختيار الإرادي الشخصي، أو لبناء ذات أو تخصص، أو مجرد اختيار أسلوب أو مجموعة من الدلالات الشخصية الداخلية والتنازلات الفاعلة، التي يجب أن نستكملها حتى النهاية؟! كانت الرواية تدعوني من جديد بقوة دفعها الداخلية التلقائية لما كان وما سيظل دائمًا موضوعي الروائي؛ موضوع شخص يفرض على نفسه بكامل إرادته قاعدة صعبة ويتتبعها بالرغم من كل العواقب، لأنه دون هذه القاعدة لن يحقق ذاته لا من أجل نفسه أو الآخرين”.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى