إيران طرفاً رئيساً في مسار التقارب… والتهديد الأميركي قائم | سوريا – تركيا: محادثات حاسمة
لا جدال في أن أربعة أطراف أجنبية رئيسة، هي روسيا والولايات المتحدة وإيران وتركيا، تمتلك التأثير الأكبر في مجريات الملفّ السوري ميدانياً وسياسياً، مع اختلاف في ما بينها في حجم التأثير وعمقه. عن هذه الأطراف، وتفاهمات ثنائية وثلاثية في ما بينها، إضافة إلى أخرى مع قوى دولية وإقليمية خامسة أقلّ تأثيراً، انبثق مساران من المفترض أن هدفهما تحقيق الحلّ السياسي المنشود للأزمة: الأوّل تَمثّل في تعديل الدستور السوري، وتنفيذ قرار مجلس الأمن 2254، الصادر في نهاية عام 2015، والذي قدّمته الولايات المتحدة ونصّت المادة الرابعة منه على «دعم عملية سياسية بقيادة سوريّة»، وهو ما انبثقت منه، عملياً، مفاوضات «اللجنة الدستورية» لاحقاً. أمّا الثاني، فهو المعروف بـ«مسار أستانا»، والذي رعتْه روسيا، وقام على جمع الطرفين الأجنبيَيْن الأساسيين، تركيا وإيران، وكان هدفه منذ اليوم الأول ضرْب المسار الأميركي، وتثبيت اتّفاق القوى الثلاث الفاعلة على تقاسم جهود الوصول إلى حلّ، وإخراج الأميركيين من المشهد. وإلى جانب «أستانا»، عقد الروس مفاوضات «سوتشي» التي أنتجت اتفاقاً على تشكيل «لجنة إعادة صياغة الدستور السوري»، برعاية الدول الضامنة الثلاث.
بعد الحرب الأوكرانية، والأزمة الاقتصادية التركية، وكذلك تحدّي الانتخابات في تركيا، وتأثير ملفّ اللاجئين السوريين في الداخل التركي، وفي ظلّ أوضاع اقتصادية طاحنة تعيشها سوريا، واستمرار تحدّي الوجود الكردي المسلّح في الشرق، والذي يُعدّ التصدّي له محلّ تقاطع سوري – تركي، تحفَّز الروس والأتراك بشكل خاص، لإعادة تفعيل مسارات الحلّ السياسي، ولكن من باب تحقيق تقارب بين أنقرة ودمشق. في بداية الأمر، طلب الجانب الروسي من القيادة السورية عدم إطلاع إيران على مجريات هذا المسار وتفاصيله، وذلك بهدف ضمان هندسته وفقاً للمصالح الروسية، بعيداً من «مزاحمة» من الممكن أن يُحدثها الحضور الإيراني في المفاوضات. لكن حسابات موسكو لم تطابق حسابات دمشق.
طهران تتجاوز «استياءها»
يُجمع المسؤولون الإيرانيون، من أعلى الهرم إلى المستويات الأدنى، على أن الوجود الإيراني في سوريا، هو شأن جيو – استراتيجي بالنسبة لطهران، يرقى على أيّ تفاصيل تكتيكية، قد تعترض طريقه. ومن هنا، فإن الحديث الذي جرى خلال الشهرَين الفائتين حول بعض التباين الممزوج بـ«سوء الفهم» بين القيادتَين السورية والإيرانية، بعيداً من المبالغة في الحديث عنه إعلامياً، والتفسيرات المتخيّلة له، هو في الأصل حصل، ولكن بقي ضمن المستوى «التكتيكي»، وهو نتج من استياء طهران من «استبعادها» من مسار التقارب السوري ــــ التركي.
بدأت القصة، عندما انعقد في موسكو أواخر شهر كانون الأول من العام الفائت، لقاءٌ حضره كلّ من وزير الدفاع الروسي ووزير الدفاع التركي ورئيس الاستخبارات التركية ووزير الدفاع السوري، بالإضافة إلى رئيس المخابرات السورية حسام لوقا. لم يُدعَ الإيرانيون إلى اللقاء، ولم يُبلّغوا به من قِبل المسؤولين السوريين. لكن، للمفارقة، كان المسؤولون الأتراك هم مَن أطلعوا نظراءهم في طهران على موعد الاجتماع، ثمّ ما جرى تداوله خلاله. لم يخفِ الإيرانيون «استياءَهم» إثر ذلك، خصوصاً أنهم كانوا قبل مدّة قصيرة قد مارسوا ضغوطاً مختلفة على الأتراك، لدفعهم إلى التراجع عن العملية العسكرية التي كانوا يعتزمون شنّها في شمال سوريا. أَرسل الإيرانيون طلب توضيح إلى دمشق، وحصلوا على ما يريدون، بعدما أبدت القيادة السورية تفهّماً للانزعاج الإيراني، وعملت على تبديده.
أيضاً، انعقدت مباحثات بين القيادتَين السورية والإيرانية، شارك فيها «حزب الله» بعمق، ولعب خلالها دوراً في تقريب وجهات النظر وتجاوز الإشكال. وفي خلاصتها، جرى الاتفاق على أن وجود إيران في المفاوضات السورية – التركية يدعم الموقف السوري، ويسرّع مسار التفاوض. كما تمّ الاتفاق على أن تكون لوزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، جولة قريبة في المنطقة، تبدأ من بيروت، وتمرّ بدمشق، وتنتهي في أنقرة.
عبد اللهيان في دمشق
وصل وزير الخارجية الإيراني إلى بيروت، منتصف كانون الثاني الفائت، والتقى أمين عام «حزب الله»، السيد حسن نصر الله، ثمّ انتقل إلى دمشق حيث اجتمع إلى الرئيس السوري بشار الأسد، ووزير خارجيته فيصل المقداد. هناك، أكّد حرص إيران على أفضل العلاقات مع سوريا، ونفى كلّ الحديث الذي كان جارياً عن إلغاء زيارة الرئيس الإيراني إلى هذا البلد. وفي المقابل، رحّب الأسد بالجهود الإيرانية، وشدّد على أهمية انخراط طهران في المفاوضات مع أنقرة، كما جدّد دعوته نظيره الإيراني إلى زيارة سوريا.
أفضت زيارة عبد اللهيان إلى تثبيت تفاهمات كان توصَّل إليها الطرفان في المحادثات الأخيرة غير العلنية، وعلى رأسها توقيع اتفاقيات تعاون رسمية بين البلدين، وتنظيم العلاقات عبر المؤسّسات الحكومية وبحسب الأصول الديبلوماسية، بلحاظ أن الحرب عملياً قد انتهت. وفي هذا السياق، اتُّفق على أن تكون لوزير الدفاع السوري زيارة إلى طهران، لبحث التعاون العسكري بين البلدين، هو ما حصل بعد أيام قليلة. كما جرى الاتفاق بين الإيرانيين والسوريين، بعلم الروس والأتراك وموافقتهم، على أن تحتضن «منصّة أستانا» مسار التقارب السوري – التركي، وذلك لسببَين: أولاً، منْح هذه المنصّة دفعة إلى الأمام في ظلّ تباطؤ وعجز ضرَبا مسارها؛ وثانياً، أن للأطراف الأربعة مقاعد «ثابتة» في «أستانا» أصلاً، وآليات واضحة للتواصل والتراسل والتفاوض، والأهمّ هو أن للإيرانيين حضوراً أساسياً فيها، ما يعني إعادة التوازن إلى مشاورات التطبيع بين أنقرة ودمشق، وعدم منح موسكو – المحتاجة بشدّة إلى الأتراك بسبب حربها في أوكرانيا – اليدَ العليا والسطوة الأكبر على المحادثات، وبالتالي أداة ضاغطة على دمشق بما يُضعف موقفها مقابل الموقف التركي.
بعد زيارته سوريا بنحو أسبوع، زار وزير الخارجية الإيراني تركيا، حيث أجرى مباحثات مع نظيره التركي، وأبلغه عزم الجمهورية الإسلامية الانخراط بشكل رسمي في محادثات التقارب مع سوريا، وهو ما لم يبدِ الأتراك أيّ اعتراض عليه. كذلك، لم تَجد روسيا بدّاً في نهاية المطاف من الترحيب بالإيرانيين طرفاً رابعاً في المباحثات.
التهديد الأميركي للتقارب
ليس واضحاً بعد إلى أيّ مدى يمكن أن يصل الموقف الأميركي الرافض للتقارب السوري – التركي. صحيح أن الأميركيين عبّروا أكثر من مرة عن رفضهم أيّ تطبيع للعلاقات مع الحكومة السورية، إلّا أنهم لم يتوجّهوا بعد بخطاب واضح إلى القيادة التركية بهذا الشأن. لكن، بالإجمال، تستطيع واشنطن تهديد هذا المسار بأشكال عدّة، من بينها مضاعفة دعمها للقوّات الكردية في شرق سوريا، وبالتالي فرض «حماية» لها. وبالنظر إلى أن الملفّ الكردي سيحتلّ غالباً مرتبة أولى في أيّ اتفاق تركي – سوري، فقد يبقى أيّ تفاهم حوله حبراً على ورق، إذا ما قرّر الأميركيون، متسلّحين بالتهديد باستخدام القوة، أن الواقع الميداني يجب أن يبقى على ما هو عليه. كما بإمكان واشنطن التلويح بفرض عقوبات اقتصادية على المتعاملين مع الحكومة السورية، من الأتراك، سواءً في الدولة أو القطاع الخاص. لكن يبقى السؤال الأهمّ هو حول الجدوى من الذهاب بعيداً في تعميق الخلاف مع تركيا – الحليفة الأكبر في «الناتو» -، في وقت تشتدّ حاجة واشنطن إلى استرضاء حلفائها.
صحيفة الأخبار اللبنانية