إيران والسعودية… سباق الأرض والفضاء

يبدو أن الجميع تخطى في الشرق الاوسط خطوطه الذاتية الحمر، قبل الخطوط «الطبيعية» التي فرضتها تراكمات التاريخ ومخرجات الاستعمار وطبيعة الأوزان وأصول «قانون» السياسة قبل علومها، فحالة «الجنون» المتحكمة بميادين الصراع، باتت انعكاساً مباشراً لحزمة «حافة الهاوية» التي اعتمدها المنخرطون و «وكلاؤهم». الصورة باتت في إطارها الاوسع، انعكاساً لحقيقة الخلفيات التي غذَّت جبهات القتال، بذلك الكم الهائل من الغضب الدائم، الضامن لاستمرارية النار، طالما تأمن لها خط لوجيستي «كريم» من المال والرجال والسلاح وعلى مختلف الجبهات. إن محاولة رسم صورة «مبسطة» للمعركة الكبرى، ليكون فيها الانقسام العمودي واضح المعالم، لا يمكن أن تخرج إلا بتناقضات على شاكلة المنطقة ورعاتها الدوليين. إنما وبالحد الأدنى، يمكن القول إن الصراع السعودي الإيراني، بات الى حد بعيد، يضبط إيقاع الأزمة ويتحكم بمسارها الصعودي او النزولي، ويفرض الى حد بعيد مزاجه الخاص على عقلية المحاور وقادتها، نظاميين كانوا أم ميليشياويين وإرهابيين.

منذ انطلاقة «الربيع العربي» أو حتى قبلها بأعوام عدة، بدت طهران ومعها الرياض على وشك الدخول في صدام «طبيعي» نظراً لتراكمات تحكمت بمسار الحدث في منطقة الخليج منذ انتصار الثورة الإسلامية في ايران العام 1979، حتى سقوط العراق بغزو أميركي، حظي بدعم سعودي وخليجي مباشر، من دون ممانعة ايرانية واضحة لإزاحة عدوها «التاريخي» الرئيس صدام حسين ونظامه البعثي نهائياً عن الصورة.

الانهيارات التي ضربت النظم العربية منذ مطلع القرن الحالي وصولاً الى الاهتزاز «العظيم» عام الفين واحد عشر وما تلاه، خلقت فجوات سياسية ونظامية وأمنية ومجتمعية، وحتى اخلاقية في البدن العربي، أوجدت ما يشبه «شراهة» على التمدد أو خوض المعارك الاستباقية، أو في الحد الأدنى توسيع الدوائر «الوطنية» لمنظومات الامن القومي ومداها الحيوي.

«الاستدارة» الأميركية و «الفزعة» الخليجية

في ظل مقدّمات الفوضى هذه، عاش الجميع في البداية على ايقاع الرحيل الاميركي، رغم ان الولايات المتحدة الاميركية لم تخف بعد ذلك على الإطلاق، تنفيذها لاستدارة هائلة، من خلال تجميدها او تخفيفها لحجم «الرحيل» المتوقع عن المنطقة والذهاب باتجاه المحيط الهادئ. الاستدارة هذه، لم تكن بالزخم المطلوب من قبل حلفاء واشنطن في المنطقة، لإيجاد منطقة عازلة ما بين الفوضى والأنظمة المرعيّة بشكل «دستوري» من أساطيل الغرب، وبدا الانخراط المباشر، أكثر أمناً من انتظار خيارات أميركية «جذرية»، اعتادها هؤلاء في الماضيين البعيد والقريب. لذا بدا الذهاب الى ليبيا وسوريا والعراق والبحرين واليمن وغيرها من دول المنطقة العربية، وإن بنسب مختلفة، أكثر أماناً من انتظار الأميركيين، خاصة أن إيران، المنافس الرئيس والداعم الاساسي للنظامين العراقي والسوري، ولاحقاً التحالف بين الحوثيين والرئيس علي عبدالله صالح في اليمن، بدت أكثر استعداداً لتنفيذ خطط شاملة وبالتدرج، للحفاظ على ما أمكن من كيانات نظامية في هذه البلدان، يقوم عليها حلفاؤها من المكونات المحلية، وإن كان لـ «الارتجال» في السياسة والميدان حيّزه الضخم أيضاً.

لم تكن إيران كما السعودية، وأطراف عربية وشرق أوسطية أخرى، من المتلقين والمتعاملين مع الحدث فقط، فإلى حد بعيد أظهر سياق وتطور الصراعات المتنقلة وبعض نتائجها الاولية، صناعة حقيقية للرعاة الإقليميين وعلى مستويات متعددة، فالمواكبة التي أظهرتها الآلتان الإعلاميتان وعلى ضفتي الخليج، ومعها مراكز القرار السياسي، بدت الى حد بعيد صانعة للحدث أكثر من كونها مجرد مروج له، بالتوازي مع وضوح تام في المواقف، بما يعنيه من انتقال المجهود من الرواق السياسي إلى الميدان وبمستويات متفاوتة. هكذا تشكلت مع الوقت، الصورة شبه النهائية «للخندقة» المتحكمة بميادين الصراع في المنطقة، ومعها ضاق حيز الوسطية، الى حد يستحيل معه العبور الى ما وراء خطوط التماس، وبدا شعار من لم يكن معنا فهو علينا، أكثر «المبادئ» تطبيقاً خاصة في سوريا والعراق واليمن.

«الحمائية» الإيرانية و «الطموح» السعودي

انكب الاهتمام الايراني منذ بداية الاحداث على تقوية الحلفاء بما أمكن من وسائل البقاء و «الصمود» في وجه موجة «التغيير» المقبلة، بمعزل عن المنتجات النهائية لهذه الموجة، من حروب أهلية وإرهاب وفوضى متنقلة. أيقن الإيراني أن رومنسيات «الصحوة الإسلامية» التي سوَّق لها سياسياً وإعلامياً في بداية «الربيع العربي» تحولت باستثناء النموذج التونسي، الى ما يشبه مقدمات «شعبوية» لـ «حروب شعبية». فإعادة صياغة الشرق الأوسط قد تعني في نهاية المطاف، انقلاباً مجتمعياً ينتج عشرات الكيانات «المارقة»، بما في ذلك من تهديد لنموذج الدولة «العقلانية» الإيرانية، التي يعوم نظامها على بحر من التناقضات العرقية والقومية والدينية، والذي ينشط بانسيابية تامة. نجحت الثورة الخمينية في تحويل الأجندة السياسية القومية المتحكمة بالدولة في عصر الشاه، وفي الساحة الداخلية قبل الخارجية، إلى دولة قائمة على أجندة عابرة للتناقضات بشعار «الجمهورية الإسلامية».

السعودية بدت الأكثر طموحاً، في ظل حراك قد يفضي الى تفتت أنظمة لطالما اعتبرتها منافسة لها، خاصة في سوريا والعراق. دمشق الصديق «اللدود» الدائم للرياض، كانت الى حد بعيد على الطرف النقيض في الملفات كافة التي انخرط فيها الجميع، من فلسطين الى لبنان، فيما بدا العراق، ما بعد صدام حسين، على المسافة ذاتها من الرياض، خاصة في ظل دعمها الواضح لأطراف منافسة للحكومة المركزية في الوسط والشمال العراقيين. وهكذا انتقل السعودي والإيراني الى مرحلة الرعاية المباشرة للصراع وللمتصارعين، حيث يقود الأول الطموح بتوسيع دائرة الحلفاء وكسب أصدقاء جدد وخلق منطقة بين حدودها «وحدود الفوضى»، فيما ينطلق الثاني من رغبة مفادها الإبقاء على ما امكن من اصدقاء، وحماية «محور الممانعة» من التشتت والتحول الى نموذج ليبي أكثر فشلاً وتناقضاً. وقد انقسمت الرعاية هذه الى مستويين من الصراع، الأول ميداني بملحقاته السياسية، والثاني إعلامي.

في إدارة الحروب «الأهلية»

عكس الميدان الى حد بعيد تراكماً واضحاً للخبرة في ادارة الحروب الاهلية من الطرف المقابل للرياض، وبصورة مجمّعة، بدا العراقيون والسوريون واليمنيون من حلفاء ايران، الأقدر على التحكم بنسق القتال وادارة المعارك، لما تمتلكه الاطراف الثلاثة من خبرات ميدانية طويلة، في حروبهم الخارجية والداخلية، كالحرب الايرانية العراقية والحروب اليمنية الداخلية، والحرب اللبنانية والحروب العربية الإسرائيلية، فيما لم تتجاوز الرياض مع حلفائها في الخليج ما راكمته ايضاً من خبراتها، التي اقتصرت على جانبين اساسيين:

ـ الأول، إغراق خطوط الإمداد بالمال، بما يعني ضماناً أكبر لديمومة التذخير، عبر شبكة هائلة من تجار السلاح خاصة في اوروبا الشرقية.

ـ الثاني، تفعيل شبكات التجنيد داخل البيئات السلفية الجهادية، وهي السياسة ذاتها التي استخدمت في التحشيد «الجهادي» ضد الاتحاد السوفياتي السابق اثناء سنوات غزوه أفغانستان.

اعتمدت السياسة هذه بشكل مفرط على العنصر البشري الداخلي في إنتاج تنظيمات عسكرية «مختلطة» يحدد الهيكل التنظيمي فيها، كما آليات العمل العسكري، خبراء عسكريون نشطوا في السابق بالجبهات الافغانية والعراقية والشيشانية والجزائرية واليمنية وغيرها. هكذا، لم تتمكن التنظيمات بشكلها النهائي، على عكس النجاح الكبير الذي حققه «تنظيم الدولة»، من التحول الى جهاز عسكري متكامل قادر على التوسع والتوغل في مناطق جديدة بهدف إدارتها وليس فقط استهداف الجيش النظامي فيها، كما فشلت في إيجاد منظومات متكاملة من التحكم المركزي والسيطرة، لذلك بدت الساحة المدارة بشكل كلّي او جزئي من قبل الرياض، أكثر قرباً من نموذج الامارات الجهادية المتنقلة، التي لا يمكن أن تنجح الا بالاستنزاف الدائم للدولة المركزية من دون تهديد وجودها بشكل نهائي. وهذا يعني أن معركة الأرض، كانت وما زالت الى حد بعيد الساحة التي فرضت فيها ايران، حدود تماس، عجز الطرف الآخر عن خرقها طوال السنوات الأربع الماضية، بل على العكس فإن القضم البطيء المنطلق من هذه الخطوط أصبح واضحاً للجميع اليوم بعد اقتراب الجيش السوري وحلفائه من الحدود التركية، ونجاح العراقيين في الاقتراب من الفلوجة و «تحرير» قسم كبير من الرمادي، اضافة لعجز قوات «عاصفة الحزم» عن التقدم ولو لكيلومترات قليلة من الخط النهائي القائم على حدود الانقسام الشمالي الجنوبي في اليمن.

الإعلام والفقر.. لا يلتقيان

في الجانب الإعلامي المرافق للحدث، بدت ايران الضيف على الميدان، كما بدت السعودية ضيفاً في ساحات القتال، ومنذ بدايات «الربيع العربي» وما سبقه من «صدامات» اعلامية بين الطرفين، ظهر جلياً التباعد الهائل في القدرات، حيث أظهرت الرياض وحلفاؤها قدرة أكبر على التفاعل مع الأحداث وبنائها وصناعتها، من خلال شبكات خبرية متكاملة كـ «الجزيرة» القطرية و «العربية» السعودية والـ «بي بي سي» البريطانية، فعمدت على توسيع رقعة الصناعة السمعية البصرية المرافقة للمجهود الحربي، في ظل تطبيق عالي الدقة للاهداف السياسية، بمعزل عن النقاش في اخلاقيات المهنة او دقة النقل الخبري، حيث كانت صناعة الاخبار لعبة الجميع وما زالت، وان بفوارق واهداف مختلفة.

التفوق «النوعي» الذي أظهرته الرياض كان نتيجة مباشرة لإغراق الاجهزة الاعلامية بالمال، خاصة ان السعوديين قبل غيرهم، ايقنوا ان الاعلام الخبري لا يمكن ان يكون مؤسسة رابحة بالمعنى الاقتصادي، وأن المبدأ الأساس، هو ان الإعلام والفقر لا يلتقيان، لذلك تفوقت الصورة والصوت الآتيان من ابوظبي والدوحة على غيرها من الحزم الخبرية الآتية من قناة «العالم» الايرانية الناطقة بالعربية مثلاً، نظراً للفارق الهائل في الميزانية بين الطرفين، وربما لقناعة إيرانية «خاطئة» مفادها أن الميدان وحده يحكم مسار الحدث، رغم ان المعطيات المتعلقة في هذا المجال كانت شديدة الوضوح، خاصة بعد حجب السعودية لقناة «العالم» عن القمرين «عرب سات» و «نايل سات» عام الفين وتسعة، لكن هذا لم ينعكس في ايران قناعة راسخة بأهمية «المعترك» الإعلامي، بل على العكس، سجلت الأعوام القليلة الماضية تراجعاً اضافياً في الميزانية المخصصة للاجهزة الاعلامية الايرانية الناطقة باللغة العربية كالعالم، في وقت عززت فيه تركيا والسعودية مثلاً، قنواتها الناطقة بالعربية.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى