إيطاليا القرون الوسطى… ما لم يُسرد عن التعايش الديني

 

مع أن الوجود العربي ــــ الإسلامي في جزيرة صقلية استمر أطول من قرنين من الزمن، إلا أن الأبحاث عن تلك المرحلة تبدو قليلة، على الأقل باللغات التي أجيدها. لذلك اخترت «مسيحيون ومسلمون في إيطاليا القرون الوسطى المبكرة: مدارك وملاقاة واشتباكات» (روتليدج 2020) بقلم البرفسور لويجي بِرتُ أستاذ التاريخ الوسيط مع التركيز على إيطاليا والبحر المتوسط في «جامعة وسترن متشغن»، الذي يتعامل مع مختلف جوانب تلك الحقبة عبر أحد عشر فصلاً، لكنه مكتوب بلغة سلسة وموجّه إلى القرّاء عامّة ولأهل الاختصاص أيضاً.

يقول الكاتب: «غزا المسلمون صقلية وحكموا هناك لأكثر من قرنين وشنّوا العديد من الغارات على شبه الجزيرة الإيطالية. خلال هذه الفترة، لم يكن المسيحيون والمسلمون في حالة حرب دائماً كما يحاول أصحاب مقولة صراع الحضارات إيهامنا به». فهذا المؤلف يسلط الضوء على العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في إيطاليا في العصور الوسطى المبكرة، ويوضح أن الطرفين لم يكونا في الواقع يجهلان بعضهما البعض كما يعتقد عادة.

يقول الكاتب إنّ معظم المصادر الأساس عن هذه الفترة روائية تركز في المقام الأول على أحداث الحرب (كانت الحرب والعنف دائماً أخباراً شائعة)، وبالتالي فإن صورة الخصوم التي تم تصويرها فيها سلبية، وهو المتوقع. مع ذلك، فإن فكرة وجود حالة عدوانية متواصلة بين المسلمين والمسيحيين غير دقيقة، وهذا العمل يهدف في المقام الأول إلى وضع ملامح تلك الصور في سياقها مع مراعاة وجود بعض الفروق الدقيقة. كما سيحلل هذا المؤلف ما كان معروفاً عن «الآخر» وكذلك العلاقات بينهما خلال الأوقات السلمية، ما يوضح وجود بانوراما حياة وتفاعل بين المسيحيين والمسلمين أكثر تنوعاً مما يصوّر عادة.

الكاتب البروفسور لويجي برت يضيف: لا يصوّر العديد من المؤلفين المسيحيين المسلمين على أنهم يجسدون الشر وأسوأ أعداء مواطنيهم. في الواقع، أثبت بعض المسلمين أن لديهم مبادئ إنسانية، على عكس العديد من الحكام المسيحيين الذين كانوا أيضاً مذنبين لكونهم خلقوا الظروف نفسها لانتصارات المسلمين، دوماً وفق تعبير الكاتب.

إن وجود انتقادات شديدة تجاه أولئك الذين كانت لهم علاقات مع المسلمين والتي لم تكن قائمة حصراً على الرفض أو الإقصاء، لهو دليل على اتباع المسيحيين طرقاً مختلفة للتعامل مع المسلمين. لكن إذا اعتبر المرء الأوصاف السلبية والسلوكيات العنيفة فطرية لدى المسلمين أو المسيحيين، ومن ثم تصوير هذه الفترة على أنها حصرية بصدام حضارات، فسوف يصل المرء إلى تفسير مضلّل يتأثّر بالدوافع التي لا علاقة لها بالتاريخ.

في الوقت نفسه، لا يمكن وصف النصوص ذات الصلة بأنها مبالغات أو اختراعات كاملة، ولا ينبغي للمرء أن يستنتج أنه لا فروق بين المسلمين أو المسيحيين أيضاً. مع أن المصادر المتاحة لا تسمح لنا بإعادة بناء التفاعلات بينهما بدقة، لكن النوافذ التي تفتحها على تلك الفترة تشير إلى أنه ــــ أولاً وقبل كل شيء ــــ لم تكن هناك حالة عدائية دائمة بين المؤمنين من الديانتين في إيطاليا في العصور الوسطى المبكرة. فإلى جانب السفراء وعدد قليل من الحجاج والمسافرين، كان هناك مسيحيون ومسلمون يسعون إلى الاستفادة من الفرص الاقتصادية المتوافرة في منطقة البحر الأبيض المتوسط.

قد تم تداول المعلومات مع السلع، ما سمح لـ«الآخر» بأن يصبح معروفاً أكثر، وفي بعض الأحيان يتم تقديره. من الواضح أن العلاقات لم تكن دائماً متناغمة. ففي لحظات التوتر، كان هناك من شدد على الاختلافات، إما بسبب الحسد أو الكراهية.

كما شهدت العلاقات بين الطرفين العديد من الهدن والمواثيق وتبادل الوفود والبعثات الدبلوماسية، إضافة إلى البحث عن مأوى لدى الطرفين. فالعديد من القادة المسيحيين الذين فشلت ثوراتهم على أسيادهم ومنهم القائد البيزنطي لجزيرة صقلية إلبيديوس ورئيس أساقفة باري وابن ملك إيطاليا السابق أدلبرت حوالى عام 961، لجأوا إلى ديار الإسلام وكذلك الفارون من وجه العدالة بسبب جرائم ارتكبوها أو اتهموا بها. كما لجأ بعض المسلمين إلى ديار «الكفار» ومنهم بعض المحاربين المسلمين الذين قتلوا قائدهم ولجأوا إلى بلاد الروم عام 835 وكذلك قاتل حاكم صقلية المسلم الذي فرّ إلى سيراكيوز عام 869. كما قاتل مسيحيون مع المسلمين ضد المسيحيين، وساعدوا في تدمير دير فنسنت في فولتورنو عام 881. وثمة إشارات إلى انخراط مسلمين مع المقاتلين المسيحيين في محاربة القوات الإسلامية.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى