لم يكن المؤرخ والكاتب الإسرائيلي “إيلان بابيه” الوحيد بين أقرانه وأتباع ديانته الذي قام بفضح السلوك الصهيوني القائم على الإجرام والقتل والتطهير العرقي للشعب الفلسطيني، إلا إنه كان الصوتَ الأعلى والأكثر جرأة بين الكتّاب والمفكّرين والسياسيين الذين آثروا المجاهرة بآرائهم، مطالبين بوقف المجازر والتنكيل بحق أبناء فلسطين.
كما أن أطروحاتِهِ كانت الأعمق بين كثير من نظرائه من تيار “المؤرخين الجدد”، ولا سيما بعد تقديمه الكثيرَ من الأطروحات التأريخية المخالفة والمتناقضة تماماً مع السردية الصهيونية المسلَّم بها عند الكثيرين، لا بل إن كتابه “التطهير العرقي في فلسطين” الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية يعدُّ واحداً من أهم الكتب التي فضحت المحتلَّ الصهيونيَّ وكشفت عن دمامة وجهه الملوث بدماء الأبرياء من أطفال فلسطين ونسائها.
ولهذا وصفه “جون بلغر” بأنه “أشجع مؤرّخ” إسرائيلي “وأكثرهم تمسُّكاً بالمبادئ، وأحدّهم مضاء” لا بل إن هذا الكتاب تضمَّن “نظراتٍ ثاقبةً في مأساة تاريخية ذات بُعدٍ عالميٍّ، بقلم مؤرخ عبقري” وفق رؤية النائب البريطاني “جورج غالووي”، وهي نظرات وتحليلات تفضح كثيراً من السياسة والسلوك الصهيوني بحق أبناء فلسطين عموماً وغزة خصوصاً، وهي القاعدة الضخمة للعدو وفق النظرة الصهيونية منذ العام .
ذلك أن هذه المدينة “مكان لا يعيش فيه سكان مدنيون” وفق ما يؤكده “إيلان بابيه” في تقديمه لكتاب “فيتوريو أريغوني” الموسوم بـ”غزة.. حافظوا على إنسانيتكم”.
وانطلاقاً من هذه النظرة العدوانية واللا إنسانية بدأ القادة الصهاينة يجهّزون للحروب على غزة منذ قرابة عشرين عاماً سبقت عملية “طوفان الأقصى” أكتوبر ٢٠٢٣، وتمَّ بناء مدينة “نموذجية” تدرّب فيها الجنود الصهاينة على القتال في شوارع غزة وأبنيتها المتلاصقة، بما فيها التدرب على الحرب البرية التي يخشاها القادة والجنود الصهاينة وترتعد فرائصهم خوفاً من خوضها في غزة، ليقينهم أن ثمة شيئاً مختلفاً ينتظرهم تحت الركام والأنقاض والدمار اللا مسبوق الذي ألحقوه بغزة نتيجة عدوانهم الهمجي وحربهم المجنونة.
وإذا كانت قادة الكيان الصهيوني قد روجوا كثيراً لما سمّاه “غضب الصالحين” قبل وفي أثناء حربهم على غزة، لترويج السردية الصهيونية المحفوظة، بشأن دفاع “إسرائيل” عن نفسها، في مواجهة أسوء أنواع البشر، بل “الحيوانات البشرية” وفق الرؤية الصهيونية، إلا أن هذه السردية تحطمت وتهشمت أمام المقاومة والتضحية، وأمام الثبات الذي يقدمه الشعب الفلسطيني الذي أبهر العالم.
ويؤكّد “إيلان بابيه” أن القتل الجماعي والمذابح بحقّ النساء والأطفال، وما يقوم به المحتلّ من عملياتِ تطهيرٍ عرقي وتهجير تحت أعمال الإبادة، ما هي إلا صور ذهنية لصيقة في العقل “الإسرائيلي”، كما أنها تتشكل بنيوياً بدرجة عالية من الأريحية، دون ضغوط نفسية، أو استصعاب في صياغة المسوّغات الهشة، والاطمئنان الكامل بها أثناء الجدال.
ويؤكد “بابيه” أن الأمر في جوهره يعود إلى أن الصهيونية ما هي إلا إيديولوجيا تبيح المذابح الجماعية والاحتلال والتهجير.
والتطهير العرقي الذي يتحدّث عنه “إيلان بابيه” لا يقتصر على منطقة دون الأخرى في فلسطين، ذلك أنه أولوية “إسرائيلية” لا علاقة لها بهرمية “الأكثر حظَّاً” أو ” الأقل حظَّاً” بين الفلسطينيين، فالفلسطينيون في منطقة القدس الكبرى يتعرضون لتطهير عرقي، وكذلك الحال للذين يعيشون قريباً من جدار الفصل العنصري، وكذلك الذين يعيشون في وهم أنهم آمنون، أي الفلسطينيون الذي يعيشون داخل أراضي ١٩٤٨، والذين سيصبحون هدفاً للعنف والإجرام الصهيوني في مرحلة لاحقة.
إن القراءة الواعية والمتأنّية لهذا المؤرخ والباحث السياسي جعلته على يقين تام، قبل عشرين عاماً من اليوم، أن يرى السلوك الإجرامي الصهيوني سيؤدي إلى عاصفة رملية جبارة لن تأتي على العالمين العربي والإسلامي فحسب، وإنما تتعداهما إلى الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا القوتين العظميين المغذيتين لهذه العاصفة المدمّرة، تماماً كما أن الحرب الأخيرة على غزة سوف تتمّم الانشطارَ الكونيَّ، الذي سيضع خرائطَ واضحةً بين الذين ينظرون إلى هذا الحدث وكأنه جغرافيا طارئة منفصلة عن التاريخ والأخلاق، وبالتالي ليس له أي ثمرة أو نتيجة متوقعة، وبين “الآخرين” من البشر غير المهادنين لسطوة المحتل وجبروته، الذين تتم إبادتهم ليل نهار في غزة، بتأييد ودعم لا حدود لهما من الدول الكبرى ولا سيما بريطانيا وأمريكا التي طالب أحد نوابها بإلقاء قنبلة نووية على غزة وإبادتها تماماً كما فعلَتْ بلاده مع “هيروشيما وناغازاكي”.
لقد آمن “إيلان بابيه” إيماناً مطلقاً بعدالة القضية الفلسطينية، وبالمظلومية الكبيرة التي تعرض لها شعبها وما زال، ولهذا لم يقتصر على توثيق المجازر الصهيونية والتطهير العرقي في فلسطين، وإنما حثَّ طلابه في الجامعة على ذلك قبل أن يطرد منها بسبب مواقفه.
وهو الذي شجع “تيدي كاتس” الطالب في جامعة حيفا على إعداد رسالة ماجستير بعنوان : “تهجير العرب من القرى المحاذية لجبل الكرمل”، ووثقت الدراسة للمجزرة الرهيبة التي نفّذها الجنود الصهاينة في أيار ١٩٤٨ في قرية الطنطورة الفلسطينية، معتمداً بشكل أساسي على التاريخ الشفوي القائم على شهاداتٍ لناجين من المجزرة.
ولما كان هذا العمل فاضحاً وكاشفاً لحقيقة الجريمة سارعت الجامعة إلى شطب الرسالة بعد أن حصل الطالب على درجة امتياز فيها، إلا أنَّ الكيان الصهيوني وداعميه عجزوا عن وقف التأييد والتضامن الكبير للآلاف من طلاب الجامعات الغربية، كما عجزوا في محاولاتهم تقديم أنفسهم وما يقومون به من إجرام على أنه لا يتعدّى “غضب الصالحين”.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة