إيلان…بطولة المشهد
“وحده البحر يسمع أنين الحيتان في الأعماق”
____________________________
كان البحارة الفينيقيون يرددون صلاة رثاء، لحظة الغرق:
“أيتها الآلهة…
لا تحكمي عليّ كإله
بل…كإنسان كسره الماء”.
الطفل الغريق (كتبتها سهواً: الغريب) ايلان… يشبه هذه الصلاة. ولكن على نحو مختلف.
الطفل السوري إيلان… ليس لديه فرصة أفضل من الذي حدث له بعد الموت …”أن يصبح بطلاً بصرياً لعالم أعمى”.
إيلان هاجر لأن الحرب تهجّر من الوطن.
وإيلان لو بقي لكان من النوع الثاني…المهاجر في الوطن.
وإيلان لديه هوية لم تصلح للاستعمال في زمن السلم، كما لم تصلح لأي نوع من الاستعمالات في الحرب .
فهو كردي سوري فراتي واقع في تقاطع نيران كل أنواع المسلحين.
وإيلان أعفى نفسه من المستقبل المغلق. فلو نجا من هذه الطفولة الغرقى .. لن ينجو من مرحلة الفتوة الثكلى.. ولن يتعلم في مرحلة الرجولة ان يكون رساماً لمصيره، ولا مترجماً لآلام الشعراء، ووحشية القتلة، واللصوص والمجرمين .
أما وطن الشباب، وحلم الشباب، وسعادة دم الشباب، فلن يكون سوى هذا الحطام المتدرج الذي يستبدل كل شيء بحلم المهاجر.
إيلان ليس القتيل البحري الوحيد، لكن صورته فريدة.
والصمت الذي يسود حول موت الآلاف غرقاً، كسره المشهد السينمائي الذي قدمه قميص إيلان الأحمر، وحذاؤه المتوجه إلى وجوه العالم.
إيلان الفلسطيني…”محمد الدره” بطل بصري أيضاً حيث اخترقه الرصاص تحت التصوير، بالصدفة التلفزيونية. ولكن القاتل كان موجوداً دائماً. ومخفياً دائماً، إلى أن حركت البصريات عالماً أعمى البصائر، لبعض الوقت ثم نام. وكان الذبح بالسكين قد أسال دماء كثيرة في سورية. ولكن الصحفي الأمريكي الذي تحول ـ تحت التصويرـ بإعلام داعش ، وهو يذبح ، إلى بطل بصري… هو ما أثار أمريكا. فأعلنت على تنظيم الدولة الحرب.
كان الكيماوي أيضاً…
وثمة إنجازات بصرية أخرى…لكن أوروبا، خاصة، مصرّة على أنواع مبتذلة من الحلول للمأساة السورية، فبدلاً من الحل الجذري: “إيقاف الحرب” كان همهم الوحيد “إيقاف الهجرة” حتى لو اضطروا إلى رمي المهاجرين في البحر أو بالرصاص.
وبدلاً من الضغط على مصادر تمويل الحرب في سورية لإيقافها تدريجياً مع الحل السياسي…يلاعبون الوقت الضائع.
ثم أن هنالك نوعاً مغشوشاً من ثقافة القيمة الفعلية للبشر كأنما لكل نوع تسعيرة خاصة. الطفل. المرأة. الشيخ. لكن القيمة لا يعلن عنها إلا في حالة الدعاية والحروب الإعلامية، فيصبح موت إيلان كارثة ضمير، بينما موت حوالي المليار بني آدم جوعاً، ومعظمهم أطفال، مجرد حدث إحصائي يخص الأمم المتحدة.
مشكلة الضمير أبسط مشكلة، لأنه العضو المجازي القادر على الغش في الاستعمال. كأن نقول “إيلان مؤلم” ولكن عشرات ومئات الإيلانات يجوعون ويمرضون ويموتون بيننا. وثمة من لا يرف له ضمير، وهو يقول أنا لا أقبل غرباء في بلادي. يشوهون نمط الحياة التي نعيشها.
وهكذا سنردد مع البحارة الفينيقيين دائماً صلاة الغرق. فيما تتكفل هذه الفكرة التاليه المتهكمة بالباقي:
“الموت أصغر حل لأكبر مشكلة…الحياة !
غداً…
إيلانٌ
آخر!