اتفاقيَّة أضنة.. من محاربة الإرهاب إلى حرب الدّول

 

قبل الدّخول في تفاصيل هذه الاتفاقية ومبرراتها ونتائجها، لا بدَّ من الإشارة إلى بعض المحطات المهمَّة في العلاقات السورية – التركية.

١- دخل السّلطان سليم إلى سوريا بعد معركة مرج دابق في 24 آب/أغسطس 1516، بعد أن انتصر على المماليك، وهم من أصل تركيّ. بقي العثمانيون فيها حتى العام 1918، وخرجوا بعد 402 عام. ودخل الجيش التركي جرابلس في 24 آب/أغسطس 2016 في الذكرى الـ500 لمرج دابق.

٢- لواء إسكندرون أوَّل مشكلة في العلاقات بين البلدين.

٣- مع بداية الخمسينيات، ونمو التيار القومي العربيّ، وانضمام تركيا إلى حلف الأطلسي وحلف بغداد، حشدت تركيا قواتها على الحدود مع سوريا، وزرعت مليون لغم فيها، وطوَّرت في العام 1958 علاقات مميّزة مع “إسرائيل” ضد سوريا والعراق والمنطقة.

٤- تحوّلت المياه إلى مشكلة ثانية بين البلدين، بعد أن بنت تركيا أوّل سدّ على الفرات في العام 1974، وهو سدّ كابان، ثم سدّ كاراكايا في العام 1983، وهو العام الذي بدأت فيه تركيا ببناء سد أتاتورك، وسعة بحيرته حوالى 55 مليار متر مكعب من المياه.

ولكلِّ هذه المواقيت معانٍ في العلاقات بين البلدين، فالسدّ الأول جاء بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، والآخر جاء بعد إيواء دمشق زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، الّذي هرب من تركيا بعد الانقلاب العسكري في 12 أيلول/سبتمبر 1980، وتحوَّل إلى ورقة فكَّرت دمشق في الاستفادة منها في أزمتها مع أنقرة، التي استخدمت المياه بدورها كسلاح مهمّ ضد سوريا.

سعى الرئيس الراحل تورغوت أوزال إلى إزالة هذا التوتر بين البلدين، وزار دمشق في تموز/يوليو 1987، واتفق مع الرئيس الراحل حافظ الأسد على أن تترك تركيا 500 متر مكعب في الثانية من مياه الفرات لسوريا والعراق، مقابل أن توقف دمشق دعمها لأوجلان، على أن يتم التوقيع بعد 5 سنوات على اتفاقية دوليّة تتعهّد تركيا بموجبها بترك 660 متراً مكعباً من المياه لسوريا والعراق، مقابل إغلاق ملفّ حزب العمال الكردستاني بشكل نهائيّ.

وقد التزمت سوريا بكلِّ تعهّداتها، وأوقفت كلّ أنواع الدعم للكردستاني، مع بقاء أوجلان في دمشق، من دون أي تحركات عسكرية وسياسية وإعلامية، فيما تهرَّب سليمان دميرال الذي أصبح رئيساً للوزراء في تشرين الأول/أكتوبر 1991 من التوقيع على الاتفاقيّة، فافتتح سدّ أتاتورك في العام 1992، وقال: “العرب يبيعون بترولهم بالدولارات، ونحن أيضاً علينا أن نبيع مياهنا”.

اعتبرت دمشق هذا التصريح وموقف أنقرة استفزازاً لها، فعادت لدعم الكردستاني، الّذي كان قد نقل معظم مخيماته من سوريا وسهل البقاع اللبناني إلى جبال قنديل شمال العراق، بسبب الفراغ الأمني هناك، بعد هزيمة العراق في الكويت.

وسافر دميرال إلى دمشق في كانون الثاني/ديسمبر 1993 لمعالجة الأمر، ولكن من دون جدوى، بعد أن قررت تركيا بناء سدَّي بيراجيك (30 كم عن الحدود السورية) وقرقميش (في نقطة الصفر على الحدود)، وهو ما أدى إلى توتر جدّي بين البلدين.

وفي ظلّ هذا التوتر واحتمالات الردّ السوريّ، وقَّعت أنقرة على العديد من اتفاقيات التعاون العسكريّ والاستخباراتيّ الواسع مع تل أبيب (1996-1997)، وهو ما اعتبرته دمشق استفزازاً يستهدفها مباشرة.

ومع عودة دمشق لدعم حزب العمال الكردستاني، ذهب قائد القوات البرية أتيلا أتاش إلى الحدود السورية في 16 أيلول/سبتمبر 1998، وهدَّد بالقيام بعمليات عسكرية ضد سوريا في حال استمرارها بدعم الكردستاني.

وهنا، دخل الرئيس المصري السابق حسني مبارك على الخط، وجاء إلى أنقرة سريعاً، عارضاً الوساطة بينها وبين دمشق، ولكنه لم يكن وسيطاً، لأنه كان يستفز الرئيس سليمان دميرال “لتلقين الأسد درساً لازماً”، فيما كان يذهب إلى دمشق، ليقول للأسد “إن تركيا جادة، وإن مصر والعالم العربي مع سوريا”، ولكنه لم يكن صادقاً، لأن أنقرة لم تكن جادة، بدليل أنها لم تحشد قوات كبيرة في المنطقة، كما تفعل الآن في إدلب وشرق الفرات وغربه.

وكان “تآمر” مبارك (كتآمر الآخرين بعد العام 2011) كافياً لإقناع الرئيس الراحل الأسد بإخراج عبد الله أوجلان من سوريا في 9 تشرين الأول/أكتوبر 1998، وهو اليوم الذي دخل فيه الجيش التركي شرق الفرات بعد 21 عاماً.

وبعد 10 أيام من هذا التاريخ، التقى مسؤولون دبلوماسيون وعسكريون واستخباراتيون سوريون وأتراك في مدينة أضنة جنوب البلاد، “وسط معاملة سيئة من أهل البيت” للضيوف السورييين، وأجبروا على التوقيع على اتفاقية أضنة الشهيرة في 20 تشرين الأول/أكتوبر. وقيل إن الرئيس الراحل حافظ الأسد تحمَّل شروطها المجحفة، لأنه كان يريد أن يترك سوريا لنجله بشار من دون مشاكل مع الجارة تركيا.

وقد تعهّدت دمشق، بموجب الاتفاقية “بعدم السماح بأيّ نشاط ينطلق من أراضيها بهدف الإضرار بأمن تركيا واستقرارها. ولم ولن تسمح بتوريد الأسلحة والمواد اللوجستية والدعم المالي والترويجي لأنشطة حزب العمال الكردستاني على أراضيها”.

واعتبرت دمشق “حزب العمال الكردستاني منظَّمة إرهابية، وحظرت أنشطة الحزب والمنظمات التابعة له على أراضيها، وتعهَّدت بعدم السماح له بإنشاء مخيمات أو مرافق أخرى لغايات التدريب والمأوى أو ممارسة أنشطة تجارية على أراضيها”.

وقالت “إنها لن تسمح لأعضاء حزب العمال الكردستاني باستخدام أراضيها للعبور إلى دول أخرى، ولن تحرض البلدان العربية الأخرى في جامعة الدول العربية ضد تركيا”.

وفي هذا الإطار، تمت إقامة وتشغيل خطّ اتصال هاتفيّ مباشر فوراً بين السلطات الأمنية العليا لدى البلدين، بعد تعيين الطرفين ممثلين عسكريين واستخباراتيين في بعثتيهما الديبلوماسيتين، وبكامل الصلاحيات، للتأكد من التزام دمشق بتعهّداتها.

وكان للاتفاقية العديد من الملاحق، أهمها الملحق رقم 3، ويقول: “يعتبر الطرفان الخلافات الحدودية بينهما منتهية، وأن أياً منهما ليس له أي مطالب أو حقوق مستحقّة في أراضي الطرف الآخر”، وهو ما اعتبره الجانب التركي تخلّي سوريا عن لواء إسكندرون.

أما المرفق رقم 4، فهو الأهمّ في حجج تركيا للتدخّل في سوريا منذ العام 2016، ويقول: “يقبل الجانب السوري أن إخفاقه في اتخاذ التدابير والواجبات الأمنية المنصوص عليها في بنود الاتفاق، أن يكون لتركيا الحقّ في اتخاذ الإجراءات الأمنية والعسكرية اللازمة داخل الأراضي السورية بعمق 5 كم”، من دون أن تقوم تركيا بمثل هذا العمل، بسبب التزام سوريا التام بجميع بنود اتفاق أضنة الذي كان يستهدف مسلّحي العمال الكردستاني فقط.

وجاءت مشاركة الرئيس أحمد نجدت سازار في مراسم تشييع الرئيس الراحل حافظ الأسد في حزيران/يونيو 2000، كمبادرة مهمة من أنقرة لفتح صفحة جديدة في العلاقة مع دمشق، وهو ما رد عليه الرئيس بشار الأسد بإرسال نائبه عبدالحليم خدام والوزير ناصر قدور واللواء عدنان بدر حسن، الذي وقع على اتفاقية أضنة، إلى أنقرة، فاستقبلهم الرئيس سازار ورئيس الوزراء بولنت أجاويد. وتم خلال الزيارة التوقيع على العديد من اتفاقيات التعاون المهمة بين الدولتين.

وجاء انتصار حزب العدالة والتنمية في انتخابات تشرين الثاني/أكتوبر 2002، ليفتح صفحة جديدة ومثيرة في العلاقات بين البلدين، وخصوصاً بعد أن اختار رئيس الوزراء وقتها عبدالله غول سوريا كأول محطة في جولته العربية لمنع الحرب الأميركية على العراق، إذ زار دمشق في 5 كانون الثاني/يناير 2003، وكان في استقباله رئيس الوزراء السوري مصطفى ميرو وجميع أعضاء الحكومة السورية، ولكنه أجرى مباحثاته مع الرئيس الأسد.

وفتحت هذه الزيارة، ومن بعدها زيارة الرئيس الأسد إلى تركيا في 5 كانون الثاني/يناير 2004، صفحة مهمة واستراتيجية في العلاقات بين الدولتين، وازدادت عمقاً بعد حوالى 80 زيارة قام بها لاحقاً الرئيس سازار ورئيس الوزراء حينها إردوغان ووزير الخارجية غول ومستشاره أحمد داود أوغلو إلى سوريا، مقابل حوالى 20 زيارة قام بها الرئيس الأسد وكل من رئيسي الوزراء ميرو والعطري ووزيري الخارجية فاروق الشرع ووليد المعلم.

هذا إذا تجاهلنا مئات الزيارات التي قام بها الوزراء والمسؤولون العسكريون والأمنيون، وأثمرت عقد أول اجتماع مشترك للحكومتين في دمشق (كانون الأول/ديسمبر 2009)، واجتماع آخر في أنقرة في 24 كانون الأول/ديسمبر 2010، بعد أن وصلت العلاقات الثنائية إلى مستوى مميز في جميع المجالات، لتصبح هذه العلاقات “نموذجاً مثالياً يحتذى به في العلاقات الدولية”، على حد قول الرئيس السابق عبدالله غول.

واستغلَّ الطرفان الاجتماع المشترك للحكومتين في أنقرة، فوقَّع وزيرا الخارجية وليد المعلم وأحمد داود أوغلو في 21 كانون الأول/ديسمبر على اتفاقية جديدة للتعاون الأمني، وكان الهدف منها “تطوير اتفاقية أضنة وتفعيلها، وتضمنت 23 مادة تشمل كل التفاصيل الخاصة بالتعاون الأمني بين البلدين”، بعد أن التزمت سوريا بكل تعهداتها في اتفاق أضنة، ومنعت كل أنشطة عناصر حزب العمال الكردستاني المسلَّحة والسياسية والإعلامية، واعتقلت العديد من عناصره وسلّمتهم لتركيا، وهو ما كان سبباً للفتور والتوتر في العلاقة بين دمشق والكردستاني، الذي كان حريصاً على التهرب من أي عمل يتناقض مع وفاء الحزب لسوريا، بسبب إيوائها أوجلان لسنوات طويلة.

واتفق الطرفان على “التنسيق والتعاون المشترك ضد كل أنواع الإرهاب والإرهابيين الّذين يشكّلون خطراً على أمن الدولتين واستقرارهما، وفي مقدّمتهم حزب العمال الكردستاني”، فيما كانت دمشق تشكو من زيارات قيادات الإخوان المسلمين المتكرّرة إلى إسطنبول وتنقّلاتهم في سوريا.

وتعهَّدت كلّ دولة “بمنع أيّ عمل إرهابي على أراضيها ضدّ الدّولة الأخرى، بما فيها عمليات التدريب والتسليح والتنقل والتسلّل عبر الحدود المشتركة من وإلى الدولة الأخرى أو دول أخرى”، كما تعهَّدتا “بملاحقة كلّ الإرهابيين من جنسيات أخرى وتسليمهم إلى الدّول المعنيّة، مع تبادل دائم وفعّال لتحركات كلّ الإرهابيين الذين يشكّلون خطراً على البلدين”.

بمعنى آخر، إنَّ اتفاق 2010، وكانت مدّته 3 سنوات يتمّ تمديدها تلقائياً، يعترف لسوريا بحقّ ملاحقة كلّ من ترى فيه إرهابياً متواجداً على الأراضي التركية، كما هو الحال بالنسبة إلى الجانب التركي، ومن دون تحديد المسافة داخل أراضي الطرف الآخر.

بمعنى آخر، إنّ اتفاقية 2010 تعترف للطرف التركي بملاحقة مسلّحي وحدات حماية الشعب الكردية داخل الأراضي السورية (إذا لم تعالج دمشق هذه المشكلة)، كما تعترف لسوريا بملاحقة كلّ من ترى فيه إرهابياً متواجداً داخل الأراضي التركية، بمن فيهم مسلّحو جميع الفصائل التي وحَّدتها أنقرة تحت اسم الجيش الوطني السوري، الَّذي تموّله أنقرة وتسلّحه وتدربه رسمياً.

وتشترط اتفاقية 2010 في مثل هذه الأعمال العسكرية التنسيق والتعاون المشترك بين الدولتين، وعبر ممثلي الجيش والمخابرات المتواجدين في سفارتي البلدين في أنقرة وإسطنبول، وهما مغلقتان منذ العام 2011.

في هذه الحالة، وأياً كان هدف أولئك الذين يتحدَّثون بين الحين والحين عن اتفاق أضنة، من الواضح جداً أن هذه الاتفاقية لم يعد لها أيّ معنى، بعد أن أصبحت تركيا طرفاً مباشراً في مجمل تطورات سوريا، إلى جانب كلّ المسلحين الذين تعتبرهم الأخيرة إرهابيين، ويشكّلون خطراً على أمنها، ويحقّ لها أن تحاربهم داخل الأراضي التركية، وفقاً للصيغة الجديدة لاتفاق أضنة للعام 2010.

وبات واضحاً أنّ هذه الاتفاقيَّة لم تكن تتوقّع أن تصل العلاقات بين البلدين إلى ما وصلت إليه، كما لم تتوقَّع أن يدخل الجيش التركي سوريا ليحارب الجيش السوري، وهو ما لم يخطر على بال الموقعين على الاتفاقية، التي يعتبرها الرئيس إردوغان حجّته للتوغل داخل الأراضي السورية والبقاء فيها، كما قال زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو، علماً بأن إدلب لا تضم مسلّحي حزب العمال الكردستاني، بل إرهابيين تلاحقهم سوريا وفقاً لاتفاق أنقرة 2010، وهو أيضاً ما لم يعد له أي معنى، بعد أن عادت تركيا لعدائها لسريا في الخمسينيات، لإحياء ذكريات السلطان سليم فقط!

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى