اتّفاق وقف إطلاق النّار في لبنان “يترنّح” واحتمالات انهياره هي الأكبر..
عبد الباري عطوان
السُّؤال الذي يتردّد هذه الأيّام بكثرة، سواءً في أوساط المُواطنين اللبنانيين العاديين، أو في الأوساط السياسيّة والحزبيّة، في الحُكم، وخارجه، هو: ما هو مصير وقف اتّفاق إطلاق النّار الذي جرى توقيعه وتنفيذه في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وينتهي بعد 60 يومًا، فهل سيتم تجديده، أو تمديده، أم سيُواجه الانهيار وعودة الحرب بالتّالي، بالصّورة التي كانت عليها قبله بين دولة الاحتلال الإسرائيلي والمُقاومة الإسلاميّة بزعامة “حزب الله”.
الأمر المُؤكّد أنّ “إسرائيل” كانت، وما زالت المُستفيد الأكبر من هذا الاتّفاق، فقد سارعت اللّجوء إلى حليفتها الأمريكيّة ومبعوثها عاموس هوكشتاين لـ”سلق” هذا الاتّفاق بأسرعِ وقتٍ مُمكن بعد وصول مئات الصّواريخ الدّقيقة في يوم “الأحد العظيم” إلى تل أبيب وقصف غُرفة العمليّات العسكريّة، وقاعدة “غليلوت” مقر الاستخبارات والوحدة 8200، وقواعد عسكريّة وجويّة في حيفا وصفد، ونهاريا، وأسدود، ولجوء أكثر من 4 ملايين مُستوطن يهودي إلى الملاجئ، وإغلاق مطار اللّد (بن غوريون) عدّة مرّات في ذلك اليوم.
***
بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، وبعد وصول صواريخ “حزب الله” إلى غُرفة نومه في قيساريا، وهُروب مِئات الآلاف من الإسرائيليين إلى ملاذاتٍ آمنة في أوروبا وأمريكا، أدرك بأنّ “إسرائيل” لا تستطيع القتال على عدّة جبهات، ومُواجهة هذه الأعداد الضّخمة من الصّواريخ سواءً الفرط صوتيّة القادمة من اليمن أو الباليستيّة من جنوب لبنان، علاوةً على مُسيّراتٍ انغماسيّةٍ مُتطوّرةٍ من العِراق، ولهذا سارع بقُبول الاتّفاق وتسريب تصريحات تقول إنّه هدف عُدوانه على لبنان ليس تدمير “حزب الله” كُلِّيًّا، وإزالته من الوجود، فهو يختلف عن المُقاومة بزعامة حركة “حماس” في قطاع غزة.
القوّات الإسرائيليّة نجحت في توجيه ضربات “مُؤلمة” لحزب الله قبل العُدوان وبعده، تمثّلت في اختراق “البيجرات”، وأجهزة الاتّصال اللّاسلكيّة “الوكي توكي”، وعمليّات الاغتيال لمُعظم قيادات الصّف الأوّل للحزب، وعلى رأسِها “سيّد الشّهداء” حسن نصر الله وخليفته السيّد هاشم صفي الدين، ونفّذت قصفًا سجّاديًّا للحاضنة الشعبيّة للحزب في الضاحية الجنوبيّة والبقاع وغيرهما ولكن سيطرتها، أو بالأحرى احتِلالها، شريطا حُدوديا بعُمُق 10 كم حتّى جنوب نهر الليطاني كانَ “الإنجاز” الأكبر والأكثر خُطورةً وإيلامًا.
“حزب الله” كان بحاجةٍ ماسّةٍ إلى اتّفاق وقف إطلاق النّار هذا لالتقاطِ أنفاسه، وإعادة ترتيب بيته الدّاخلي العسكري والسياسي، وملء الفراغات النّاجمة عن عمليّة الاغتِيالات، والدّفع بقياداتٍ شابّةٍ إلى الصّف الأوّل، ولكنّ المُعضلة الأكبر التي لم يُحسَب حِسابها تتمثّل في نجاح العُدوان الثّلاثي الأمريكي- التركي- الإسرائيلي الذي أدّى إلى الإطاحة “بدُرّة” تاج محور المُقاومة “سورية” وإسقاط نظامها بزعامة الأسد، ممّا يعني قطع خُطوط الإمداد العسكريّة والماليّة المُباشرة بين إيران والمُقاومة الإسلاميّة في لبنان.
احتمالات انهيار اتّفاق وقف إطلاق النّار في لبنان ربّما أكبر من احتِمالات تمديده للأسباب التّالية:
أوّلًا: عدم التزام دولة الاحتلال بأيٍّ من بُنود وقف إطلاق النّار، ومُواصلتها قصف مواقع لـ”حزب الله” ومنصّات صواريخه، وبلغت اختراقاتها أكثر مِن 383 اختراقًا حتّى الآن، والذّريعة بطء انتشار الجيش اللبناني وعدم تنفيذه مطالب “إسرائيل” بتدمير بعض قواعد “حزب الله” العسكريّة.
ثانيًا: منْع عودة النّازحين اللبنانيين إلى قُراهم في الشّريط الحُدوديّ الجديد المُحتل، والإجهاز على ما تبقّى واقفًا من المنازل فيها، وقتل حواليّ 40 مُواطنًا وإصابة 50 آخرين حاولوا العودة إلى منازلهم.
ثالثًا: إبلاغ دولة الاحتلال لحُلفائها في أمريكا وفرنسا والدّول الأوروبيّة الأُخرى بأنّها لن تنسحب من الأراضي التي احتلّتها في جنوب لبنان بذريعة عدم التِزام “حزب الله” بالشّروط، وإعادته تنظيم صُفوفه وتسليح قوّاته بصواريخٍ ومُسيّراتٍ جديدة.
رابعًا: ألمحَ البيانُ الأخير الذي أصدره “حزب الله” قبل ثلاثة أيّام، وأكّدته تصريحات السيّد محمود القماطي نائب رئيس المجلس السياسي الأعلى للحزب، إلى انسِحاب الحزب من هذا الاتّفاق بسبب الاختراقات الإسرائيليّة المُتصاعدة، ومُطالبة حاضنته الشعبيّة بالرّد عليها فورًا، وقال السيّد القماطي “انتظروا اليوم الواحد والستّين للاتّفاق، وبعدها لكُلّ حادثٍ حديث”.
خامسًا: سيطرة عناصر تابعة للقوّات الأمريكيّة على مطار بيروت وإقدامها على تفتيشٍ مُهينٍ ومُذِلٍّ لركّابٍ لبنانيين وإيرانيين قادمين على ظهر طائرة مدنيّة إيرانيّة، والذّريعة منع وصول ملايين من الدّولارات إلى “حزب الله”، وتبيّن عمليًّا كَذِبْ هذه الادّعاءات التي روّجت لها محطّة تلفزيونيّة سعوديّة وربّما بتسريبٍ أمريكيٍّ مُتعمّد.
سادسًا: حالة الفُتور والتّشاؤم التي تتصاعد في أوساط القِوى السياسيّة والبرلمانيّة اللبنانيّة تُجاه مسألة انتخاب رئيسٍ للجمهوريّة يوم الخميس القادم بسبب فشل اتّفاق وقف إطلاق النّار، والتّواطُؤ الأمريكي الفرنسي البريطاني مع الاختراقات الإسرائيليّة.
***
المُفجّر الصّاعق لاتّفاق وقف إطلاق النّار في لبنان قد يأتي من جرّاء تمسّك “إسرائيل” باحتِلالها للشّريط الحُدودي بعُمُق عشرة كيلومترات شِمالًا حتّى جنوب نهر الليطاني، وإبلاغها الولايات المتحدة رسميًّا بذلك، حسب أجهزة إعلام رسميّة، وجعل الشّريط حزامًا أمنيًّا جديدًا وعازلًا لحماية المُستوطنات في الجليل المُحتل، وإعادة المُستوطنين إليها، ويتعمّق هذا الاحتلال بدعمٍ مُباشرٍ من الولايات المتحدة رئيسة لجنة الرّقابة الدوليّة ورئيسها القادم دونالد ترامب الذي تعهّد “بتسمين” هذا الكيان بضمّ أراضٍ لبنانيّة وفِلسطينيّة (الضفّة والقطاع) وسورية (500 كيلومتر مُربّع في جبل الشيخ والقنيطرة)، وأردنيّة فلسطينية (مِنطقة الأغوار)، وربّما سعوديّة ومِصريّة لاحقًا أيضًا.
“إسرائيل” لم تنسحب من أيّ أراضٍ عربيّةٍ احتلّتها إلّا بالقوّة، والاستثناء الوحيد كانَ صحراء سيناء، ويعتقد كثيرون ونحنُ من بينهم أنّها قد تُحاول إصلاح خطئها التاريخيّ في لبنان بالتخلّي مُكرَهةً وبقوّة السّلاح عن ما يُسمّى بالحزام الأمني الإسرائيلي، والهُروب منه ومعَها قوّات أنطوان لحد العميلة.
المُقاومة الإسلاميّة اللبنانيّة ستعود حتمًا لمُواجهة هذا العُدوان الإسرائيلي، فهي لا تفعل ذلك كقُوّة مُساندة للمُقاومة الفِلسطينيّة في قطاع غزة والضفّة فقط، وإنّما كحركة تحرير للأراضي اللبنانيّة المُحتلّة جنوب نهر الليطاني، وستنتصر في المرّة الثّالثة، كما انتصرت في الأولى وحرّرت الحزام الأمنيّ عام 2000، وهزمت الجيش الإسرائيلي في حرب تمّوز عام 2006 في المرّة الثّانية.. ومثلما هربت إسرائيل من قطاع غزة عام 2005 بالطّريقة نفسها.. والأيّام بيننا.
صحيفة رأي اليوم الألكترونية