اثنتان وعشرون سنة من تجربة عربية تسبح عكس التيار!

قبل 22 سنة، وفي مثل هذا اليوم (18 كانون الأول/ديسمبر) من العام 1994، بدأت تجربة ثقافية عربية جديدة وفريدة في منطقة العاصمة الأميركية. تجربة استهدفت تعزيز الهوية العربية وتحسين نوعية المشاركة العربية في المجتمع الأميركي من خلال تطوير الفكر والأسلوب لدى المتفاعلين معها، وبحيث يكون ذلك مقدمة لدور عربي أفضل في مختلف المجالات.

كان البعض يتساءل في العام 1994: كيف تريد تجربة “الحوار” أن تنجح في عملها وسط جالية منقسمة على نفسها سياسياً، وأحياناً على أساس أصول إقليمية أو مناطقية أو طائفية؟ وكيف تريد “الحوار” حواراً هادئاً مجدياً بين العرب إذا كان الانقسام في المنطقة العربية قد تحوَّل من صراع بين حكوماتٍ إلى صراع داخل الشعوب؟!.

كان العام 1994 في أوج مرحلة الاتفاقات مع إسرائيل وبدء الحديث عن “الشرق أوسطية” كبديل للهوية العربية، وعن التطبيع مع إسرائيل كبديلٍ عن العلاقات الطبيعية بين العرب أنفسهم… وكان الحوار بين العرب وغير العرب نشِطاً وجارياً في كل مجال، بينما الحوار بين العرب أنفسهم كان مقطوعاً ومُعطَّلاً في أكثر من مكان.

وبشكلٍ معاكس لكل هذا التيار السلبي، كانت “سباحة مركز الحوار” وموضوعاته وأنشطته، والتي شملت مختلف القضايا الفكرية والسياسية والأدبية والإقتصادية، كما كان من ضمنها لقاءات عديدة خاصة بالشباب العربي في منطقة واشنطن.

هكذا هو تاريخ 22 سنة من تجربة “مركز الحوار” منذ العام 1994، تاريخ سباحةٍ عكس التيارات السائدة:

كالدعوة للحوار العربي في زمن الصراعات والإنقسامات العربية.

والدعوة للعروبة في زمن التخلي عنها من قبل حكوماتٍ ومنظمات، وحتى من بعض الشعوب.

والدعوة للهوية الثقافية العربية المشتركة في زمن الإنشداد للهُويات الطائفية والمذهبية والإثنية.

والتأكيد على مركزية القضية الفلسطينية وعلى المسؤولية العربية تجاهها في فترة “فلسطنة” الصراع مع إسرائيل والتهميش المتعمّد للقضية الفلسطينة نتيجة الصراعات العربية البينية.

هي تجربة “معاكسة” حتى أيضاً على المستوى العملي، إذ أنّ المراكز الثقافية والفكرية تتأسس أولاً ثم تصدر مطبوعات عنها، بينما مطبوعة “الحوار” تأسست أولاً (في العام 1989) ثم نتجت عنها تجربة “مركز الحوار”.

ولعلَّ أهمية التجربة أنها حدثت وتحدث في مكانٍ خارج المنطقة العربية، وفي واشنطن تحديداً، إذ هنا يتساوى العرب فيما بينهم، فجميعنا هنا “عرب”، وحتى لو أصبحنا من المواطنين الأميركيين، فإننا بنظر المجتمع الأميركي متساوون بالانتماء إلى الهوية العربية، بسلبياتها وإيجابياتها.

إذن، قيمة تجربة “مركز الحوار العربي” أنها تحدث في هذا المجتمع الأميركي الذي قام ويستمر على أساسٍ دستوري حقق التكامل بين الولايات المتعددة الخصوصيات من جهة، وبين نظام ديمقراطي، من جهة اخرى، يحمي حقوق الفرد والجماعة والولاية أيضاً. وفي هذه التجربة الدستورية الأميركية ما يمكن الأستفادة منه عربياً لتحقيق التكامل بين البلاد العربية على أساس دستوري سليم، يراعي الخصوصيات الوطنية ويحفظ حقوق كل الأفراد والجماعات.

لكن هل يمكن بناء جالية عربية فاعلة في أميركا أو أي مجتمع غربي إذا كان أفراد هذه الجالية رافضين لهويّتهم العربية ومنقسمين على أنفسهم؟! وكيف يمكن مخاطبة الآخر غير العربي ومحاورته بالقضايا العربية العادلة إذا كان الإنسان العربي نفسه لا يملك المعرفة الصحيحة عن هذه القضايا ولا يجد لديه أي التزام تجاهها؟! وكيف يمكن للعرب أن يخرجوا ممّا هم فيه من انقسامات وأن يواجهوا ما أمامهم من تحدّيات إذا كانت هويّتهم الثقافية المشتركة موضع شكٍّ أصلاً، يصل إلى حدِّ الرفض لها أحياناً والاستعاضة عنها بهويّات ضيّقة؟!

إنّ الشعوب أو الجماعات التي تهمّش دور الفكر في حياتها تُهمّش عملياً دور العقل لتُحِلَّ مكانه الغرائز والانفعالات فتصبح الشعوب أدوات فتن، وتتحوّل الأوطان إلى بؤر صراعات تؤجّحها القوى التي تملك “أفكارا” لتنفيذها هنا وهناك. ف”الأمّة التي لا يفكّر لها أبناؤها تنقاد لما يفكّر لها الغرباء”.

لقد اهتمت تجربة “الحوار” كمجلة أولاً ثم كمنتدى للحوار لاحقاً، بالشأن الفكري وبضرورة القناعة بوجود تعددية فكرية في أي مجتمع، وبأن ذلك يتطلب أيضاً تعددية سياسية في الحياة العامة. فوحدة الانتماء الحضاري ووحدة الانتماء الثقافي للعرب لا يجب أن تعنيا إطلاقاً وحدة الانتماء الفكري أو وحدة الانتماء السياسي .. ولا يجوز ولا يجب أن يكون اختلاف الفكر والتوجه السياسي سبباً للخلاف بين الأشخاص أو لصراعات عنفية بين الجماعات في المجتمع الواحد.

أيضاً، أكّدت تجربة “مركز الحوار” على أهمية دور الفكر في الحياة العامة وبأنّ الحل للمشاكل يبدأ في الفكر نفسه، وهو بأيدي المفكرين لأوطانهم ولأمتهم، لكن حل المشاكل العربية يتطلب أولاً وأخيراً التلازم بين الفكر السليم والأسلوب السليم لدى قيادات سليمة.

أمور كثيرة أدركها المتفاعلون مع تجربة “مركز الحوار” في مسيرة السنوات ال 22 الماضية، وفي ندواتٍ وصل عددها حتى الان الى 1024 ندوة (أي بمعدل 47 ندوة في العام)، بدايةً في الحوارات العميقة حول الهوية وحول المفاهيم والمصطلحات وحول الثقافة العربية ودور الدين في المجتمعات، ثم حول قضايا سياسية كثيرة بعضها عربي عام وبعضها وطني خاص ببلدان عربية محددة، إضافة إلى قضايا الجالية العربية في أميركا.

وينتمي الحاضرون، في كل ندوة، إلى أوطانٍ عربية متعددة وإلى اتجاهاتٍ فكرية وسياسية مختلفة، وإلى تنوعٍ أيضاً في الطوائف والمهن والأعمار والمستويات العلمية، لكن يشترك الجميع في الحرص على الهوية الثقافية العربية التي تجمعهم وعلى أهمية أسلوب الحوار الهادئ والجاد بينهم لتبادل الأفكار والآراء مهما تباينت واختلفت.

في مسيرة 22 سنة أقام المشتركون في المركز والمتفاعلون معه حالةً نموذجية لما يحلمون به للمنطقة العربية من تنوعٍ في الخصوصيات لكن في إطارٍ تكاملي وبمناخٍ ديمقراطي يصون حرية الفكر والرأي والقول. فلقد جسَّدت تجربة المركز حالة مختبريّة (تماماً كما هي المختبرات العلمية التي تقيم التجارب لتصل إلى القوانين الصحيحة) لِما هو منشود للعرب جميعاً أينما كانوا.

ولم يكن تأسيس “مركز الحوار العربي” تقليداً لشيءٍ موجود في أي مكانٍ آخر، إذ هو حالة جديدة وفريدة أيضا، وما زال كذلك (رغم تواضع أمكنة الندوات وضعف ميزانية المركز). أيضاً تأسيس “مركز الحوار العربي” لم يكن منافسة لما هو موجود وقائم من مؤسسات وجمعيات أخرى ذات طابع حركي عربي/أميركي. بل على العكس، فإنّ وجود “مركز الحوار” أفاد ويفيد هذه المؤسسات كلها، وشكّل لها رافداً لدعم بشري ومادي ومعنوي، كما وفّر لها منبراً تصل من خلاله إلى بعض الفعاليات العربية.

***

22 عاماً مضت على تجربة كرّست نفسها لخدمة الجالية العربية، وللعمل على التآلف بين العرب لا على تعميق الصراعات بينهم. تجربة ساهمت حتماً بزيادة الوعي الفكري والسياسي والثقافي لدى كل من تفاعل معها على مر السينين. تجربة كانت في طليعة من ينشطون لخدمة القضايا العربية داخل المجتمع الأميركي، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية التي يدور حولها الصراع الأكبر بين أنصار الحق ودعاة الباطل في الحياة السياسية الأميركية. أيضاً، ساهمت تجربة “مركز الحوار”، بما تنشره من مواضيع هامة باللغة الأنجليزية، في الرد على طروحات الكراهية والعنصرية ضد العرب والمسلمين في أميركا، وفي تصحيح الصورة المشوّهة عنهم.

إن “مركز الحوار العربي” حقّق ويحقّق الكثير من الفوائد العامة لكل من يتفاعل معه، وللجالية العربية في أميركا وللعرب عموماً، لكن مواصلة أنشطته تحتاج إلى دعم المركز وتوسيع دائرة المشتركين فيه.. فالسباحة عكس التيار، تعني إستقلالية الفكر والقرار، وثمن ذلك قلة في الموارد وزيادة في الإرهاق، بينما شاطئ الأمان العربي ما زال في حكم المجهول!.

(مدير “مركز الحوار العربي” في منطقة واشنطن)

صحيفة رأي اليوم الألكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى