اجتماعيات الريف والمدينة في «زَندُ الحجر»
تقول «زَند الحجر»، رواية ضحى عبد الرؤوف المل الأولى (دار الفارابي)، حكاية الأب والجدِّ والحفيدة، في فضاء اجتماعي ريفي/ مديني. وتقول، من خلالهم، حكاية شريحة اجتماعية كبيرة؛ تتحدّر من جذور ريفية، تنتمي إلى القاع الاجتماعي، تقطن عشوائيات المدن، تتفرّق بها السّبل بين الأحياء والحارات والزواريب، وتدفع ثمن انتمائها الطبقي في السِّلم والحرب.
ترصد الكاتبة التحوّلات الاجتماعية، العكار- طرابلسية، خلال النصف الثاني من القرن الماضي، من خلال اقتفاء حركة أسرة، على مدى ثلاثة أجيال، في نزوحها من الريف إلى المدينة، وفي سعيها للحصول على لقمة العيش والحياة الكريمة. وترصد الظروف التي تنطلق منها الشخصيّات المختلفة، والمسارات التي تسلكها، والمصائر التي تؤول إليها. وهي تفعل ذلك بعين الروائية التي تتعقّب الخطوات والحركات والسكنات، وتلتقط التفاصيل والإشارات والجزئيات، وتبني منها الحياة الروائية، الموازية أو المفارقة، للحياة الطبيعية.
الحياة الروائية التي تقدمها «زَند الحجر» موازية للحياة الطبيعية، في آلامها وآمالها، ونجاحاتها وإخفاقاتها، ومدِّها وجزرها، وسلمها وحربها، ولهوها وجدّها، وحبِّها وكرهها…، ومفارقة لها في أن بعض الوقائع المهمة في الحياة الطبيعية، من موت ومرض وسفر ومتاع، يتم تقديمها في الحياة الروائية في شكل عرضيّ دون التوقّف عندها. ولعل ذلك يعود إلى أنّ للفنّ، أيًّا كان نوعه، حياته الخاصة وآليّات عمله غير المطابقة، بالضرورة، للحياة.
في بداية الرواية، تشير الراوية المشاركة، التي تسند إليها الكاتبة روي الفصلين الأوّل والثالث من الرواية، إلى أنّها ستروي حكاية أبيها، وترمِّم الفجوات فيها، وتجلو بعضَ النقاط المجهولة. ومع ذلك، تُخصِّص الكاتبة الفصل الأوَّل من الرواية الذي يَستغرِق سبعًا وخمسين صفحة للجَدّ عبد الغفور الذي يُمثّل الجيل الأوَّل من الأسرة، وحضور الأب في هذا الفصلِ هامشيّ غير مباشر. ويقتصر الحضور المباشر للأب عبد الغفور الذي يمثِّل الجيل الثاني على الفصلِ الثاني الممتدِّ على أربع وستّين صفحة يرويها بنفسه. ويَغلُب على الفصل الثالث والأخير من الرواية، الممتدِّ على خمس وأربعين صفحة، حضور الابنة الراوية هدى التي تُمثّل الجيل الثالث منَ الأسرة العكّار– طرابلسية، وتواصِل تجميع خيوط حكاية الأب، فيحضر بشكل غير مباشر، وتقول حكايتَها في الوقت نفسه. وهكذا، يكون الفصل الأوَّل تمهيدًا للثاني، ويكون الثالث تتمَّةً له، على أنّ العلاقات بين الحكايات الثلاث هي علاقات استمرار، ونمو، وتقاطع، وافتراق، وتوازٍ… فيعيد «التاريخ» نفسَه في بعض المواقف، ويَختلف عنها في مواقف أخرى.
بالعودة إلى الشخصيات الثلاث، نشير إلى أنّ عبد الغفور الجَدّ صاحب شخصية متمرّدة منذ الصِّغر. هو شخصية لامنتمية سواء للأسرة التي تحدَّر منها أو لتلكَ التي تحدّرت منه. وهو زوج غير مخلص، وأب غير حنون، ورجل ذكوري. يعاني ازدواجية الرجل الشرقي، فَيغرق في علاقاتِه النسائية المتعدِّدة، وحينَ تفتري زوجته الثانية على ابنته الوحيدة فاطمة يقوم بِضرب الأخيرة بوحشية، ويلحِق بها الأذى، ما يَترك أثرَهُ العميق على جسدها وحياتها. وهو، إلى ذلك، شخصية وجودية، يقبِل على الحياةِ وَمَلاذِّها رُغمَ الفقر وضيق ذات اليد، ويموت خلال مضاجعة أخيرة لزوجتِه اللعوب، فَيُبادِر منيّتَهُ بما ملكَتْ يده، على حدِّ تعبير الشاعرِ الوجودي طَرَفَة بنِ العبد.
الشخصية الثانية هي عبد الرؤوف، ابن عبد الغفور وأبو هدى والشخصية المحورية في الرواية، وهيَ حاضرة بشكل غير مباشِر في الفصلين الأوَّل والثالث، وبشكل مباشِر في الفصلِ الثاني. وهي مزيج من المأساة واليتم والفقر والبؤس والعصامية والمغامرة والطموح والوعي المبكّر والإقبال على الحياة، أي أنّها شخصية تَجمَع المتناقضات؛ وهكذا، تتقاطع شخصية الأب مع شخصية الجَدّ في الإقبال على متع الحياة وملاذّها، وتفترق عنها في ممارسة وظيفة الأبوّة. على أنّه لا بدّ من ذكر ملاحظتينِ اثنتيْن تتعلّقان برسم هذه الشخصية: الأولى هي أنَّ عبد الرؤوف الطفل يبْدي وعيًا طبقيًّا مبكِّرًا ويَطرَح أسئلةً أكبرَ من عمره. فهل يستقيم ذلك مع عمره وكونه غير متعلّم؟ ثمَّ، أليس في ذلك إسقاط على الشخصية ما لا قبَل لها بتحمّله؟ والثانية هي أنّ عبد الرؤوف الكهل يخبر ابنتَه هدى حكاية حبِّه لعفاف ومغامراته معها وَيجِد لَديها تَفَهّمًا وآذانًا مصغية. فَهل يستقيم ذلك معْ كونه رجلاً شرقيًّا يَتَحَدّر من بيئة ريفية محافظة؟
الشخصية الثالثة في الرواية هيَ شخصية هدى، ابنة عبد الرؤوف وحفيدة عبد الغفور، وهيَ الشخصية الأكثر حضورًا في الرواية، سواء من خلال كونها الراوي الشاهد على الأحداث في الفصلين الأوَّل والثالث، أو من خلال كونها المرويّ لها في الفصل الثاني. وهدى متعلّقة بأبيها منذ الصِّغر. لذلكَ، تَأخذ على عاتقها مهمَّة تجميع خيوطِ حكايته وجلاء الغموض الذي يحيط ببعض محطّاتها وترميمِ الفجوات فيها، فتتنكّب مشقّة الانتقال بين الأمكنة التي عرفَها، واللقاء بالأصدقاء الذين صادقَهُم، والحصولِ على الصور والمستندات التي تساعِدها، والبحث عن سرّ عفاف بعد عشرين عامًا على رحيلِها، حتى إذا ما توصّلتْ إلى تحقيق هدفِها تكون قد أدّتْ للأبوَّة قسْطها. وهدى تنخرط في علاقة حبّ مع بسّام تسقِط عليها شيئًا من علاقة أبيها بعفاف، فيعيد «التاريخ» نفسَه ولو جزئيًّا. إلى جانب هذه الشخصيات، ثمّة أخرى تتعالق معها سلبًا أو إيجابًا، وتشكّل مجتمعة الفضاء الروائي. وهي جميعًا تنتمي إلى الشريحة الاجتماعية نفسها، العالقة بين ريف لم تَعد فيه ومدينة لم تصبِح منها، فهيَ مركَّبة الهُوية، مُلتَبِسَة الانتماء.
في روايتها، تكثر ضحى المل من ذكر الأمكنة الروائية، وهي أمكنة حقيقية، تسمّيها بأسمائها، وَتَقَع معظمها في طرابلس، وتتراوح بينَ الحارات، والأحياء، والزواريب، والشوارع، والساحات، والطلعات، والعقبات، والدور، والمعالم الجغرافية… ما يجعل منَ الرواية أطلسًا روائيًّا للمدينة، ويوهم بواقعية الرواية وتاريخيَّتها.لا بدّ من «تمسيك» هذه العجالة بختام عن الخطاب الروائي في «زَنْدِ الحجر»، فنشير إلى أن المل تجمع بين التقنيات الحديثة والتقليدية في خطابِها؛ فهيَ تستخدم تقنية تعدّدِ الرواة في علاقة تعاقبية فيما بينَهم وليسَت تزامنية. وتحرك السرد وفق خطّية غير متكسّرة، بل متقطّعة بفعل الفجوات الزمنية غير المردومة. وتحدد اتجاه الحركة بوقائعَ تشكّل نقاط تحوّل في مجرى الأحداث ومسار الشخصيات. والسرد متنوّع في المضمون حتى ضمن الصفحة الواحدة بحيث ينتقل من شخصية إلى أخرى، ومتنوّع في الشكل بحيث يجري كسر نمطيّتِه بكلمات أغنية أو نداءات باعة أو خبر صحفي.
أمّا الحوار فَيُزاوج أحيانًا بين المحكية والفصحى في الموقف الحواري نفسه، ما يجعله هجينًا. وحبّذا لو استخدمَت المحكية في الحـــوار، فتوهم بواقعيته، وَتَجعله ملائمًا العالمَ المرجعيَّ الذي تحي إليــه الروايـــة. وهيَ تفعل ذلكَ كلَّه بِلغة روائية مناســبة لهذا العالمِ بمستواها الوسطي بين الفصحى المقعّرة والمحكية المستهلكة.
بهذه التقنيات، تثبت ضحى المل أنَّها تمتلك أدواتها السردية، وتستخدمها بكفاءة واضحة. ورغم أنّ «زَنْدَ الحجر» روايتها الأولى، فهي عرفَت كيف تتجنَّب تعثّر البدايات، وتخطو خطوةً واثقة على درب الرواية الطويل، سَتُعقِبها خطوات أخرى واثقة.
صحيفة الحياة