احذروا الفقراء أيها الفقراء

 

الذين يمتدحون الفقر ـ والعياذ بالله ـ صنفان متناقضان أشد التناقض، لكنهما يشتركان في الكذب والنفاق والتجاهل: الأول فقير خنوع أثقلته الحاجة فراح يهذي مغازلا الحالة التي هو عليها مثل ديك على مزبلة أو ضفدع في بركة آسنة، وذلك في محاولة بائسة لتبرير عجزه والتصالح مع مصيره المفجع، أما الثاني فغنيّ مخادع، يريد الاستفراد وحده بمتع الحياة، مدعيا بأن للفقر ملذات كملذات الغنى.

من يشذ على هذا التصنيف من مداحي الفقر والخصاصة، ومعادي الثروة والرفاهية، هو بلا شك، حالة مرضية مستعصية تستوجب مراجعة طبيب نفسي، أمّا عمن وظف مواهبه في مغازلة الفقر والفقراء، وشتم الثروة والأثرياء كي يصبح غنيا، فهل يُلعن إلى يوم الدين أم تُرفع له قبعة ” الإعجاب” حتى وإن كان محتالا؟ هذا أمر شديد التعقيد والالتباس على كل حال، ذلك أن كل شيء ـ وبصرف النظر عن المعيار الأخلاقي ذي الطبيعة المطاطية ـ يمكن الاستثمار فيه من أجل كسب معركة الحياة، بما في ذلك خياطة الأكفان وصناعة التوابيت وحفر القبور.

لا وجود لشريعة سماوية أو عقيدة أيديولوجية تحرض المؤمنين بها على الفقر والفاقة في حد علمي بل جل ما نعلمه أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وإلا ازدحمت الجنة بسكان العالم الثالث و”أبطال الفقر والمجاعة” في أفريقيا وآسيا، تراهم جالسين ببطونهم المنتفخة على الأرائك، يتفرجون في زهو وشماتة على ” الخالدين في السعير” من أغنياء البلدان المحاربة للفقر.

من محاسن الغنى ـ أو الإحساس بالغنى على وجه الدقة والتصويب ـ، والذي صار يُورث جينيا حسب أحدث الدراسات،  أنه يمنح صاحبه الطمأنينة والهدوء، التبصر في حال الناس وجمال الطبيعة، بينما غالبا ما يطبع الفقر أتباعه ومريديه بنزعة عدائية فتراهم شديدي الحسد والبغضاء، وسريعين للانتقام في حال امتلاكهم لذات اليد التي طالما حُرموا منها.

وفي هذا الصدد، حذرت العرب من حديثي النعمة، وقالت إن أول ما يفعله الميسور بعد حرمان هو أن يجافي صديقه القديم، يتزوج على امرأته ويغير من بيته وأخلاقه إن كان له بالأصل بيت وأخلاق.

لنقف قليلا عند قصيدة قالها الإمام الشافعي في الفقير دون أن نستعجل الحكم على الكلب ونظلمه متجاهلين وفاءه:

حتى الكلابَ إذا رأت ذا ثروةٍ *** خضعت لديهِ وحرَّكَتْ أذنابَها

وإذا رأت يوماً فقيراً عابراً *** نَبَحَتْ عليهِ وكَشَّرَتْ أنيابَها.

ليس الأمر ضربا من القدرية والاستسلام لمصير محتوم، لكن عدالة خفية ومحيرة تتحكم في معضلة الفقر والغنى، بدليل قول يحي بن عمر ” لو أراد الله هلاك النملة لخلق لها جناحين”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى