ارتدادات الساحة السورية: «داعش» يهاجم ريف حلب الشمالي
بدأت الساحة السورية بالاستجابة لارتدادات الزلزالَين اللذين ضرباها خلال الأسابيع الماضية، وتمثّلا بسيطرة «جبهة النصرة»، فرع تنظيم «القاعدة» في الشام، وحلفائها على محافظة إدلب، وسيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» – «داعش» على مدينتي تدمر والسخنة وعلى بعض حقول الطاقة، حيث أخذت تظهر على الأرض بعض الإفرازات المتوقعة لهذه التطورات، وأهمها عودة الحرارة إلى خط الصراع بين الفصائل الإسلامية ضد بعضها البعض، في إطار تنافسها القديم المتجدّد على النفوذ والمصالح.
وتؤكد سرعة الاستجابة التي أبدتها الساحة السورية لهذه التطورات المتلاحقة، على أمر في غاية الأهمية هو مدى الحساسية البالغة التي باتت تستبطنها معادلة القوى المعقدة على الأرض، والتي يرتبط كل طرف فيها بداعم إقليمي أو دولي. وهذا يشير بدوره إلى أن «حرب الإمارات» في سوريا انتقلت خطوة إلى الأمام، بعد أن رسّخ كل طرف «إمارته»، وأصبح الهدف هو ترسيخ المشروع الإقليمي والدولي الذي تعمل بعض هذه «الإمارات» وفق أجندته.
ولا يمكن فهم الهجوم الذي شنّه «الدولة الإسلامية» صباح أمس على ريف حلب الشمالي إلا في هذا الإطار العام، لأن التنظيم، من خلال هذا الهجوم، لا يسعى فقط إلى التمدّد والتوسّع فوق مساحة إضافية من الأرض، وإنما يكمن هدفه الأساسي في توجيه ضربة قاتلة إلى «إمارة الشمال في إدلب» التي أصبحت تمثل تهديداً وجودياً له، خاصةً إذا نجح القائمون عليها بالتقدّم في حلب وتهديد معاقله في الريف الشرقي.
ولا يُخفي تنظيم «الدولة» اعتقاده أن «جيش الفتح»، الذي تعتبر «جبهة النصرة» ركيزته الأساسية، ما هو إلا «جيش صحوات»، الهدف منه محاربته نيابة عن «التحالف الدولي» أو بعض الدول الإقليمية. وتتم الإشارة في هذا السياق إلى أن الهدف الأول من تدريب «المعتدلين» في تركيا هو محاربة «الدولة». وما عزّز من ذلك أن «الجبهة الشامية» كانت قد قامت قبل حوالي أسبوعين بهجوم على بعض معاقل «داعش»، وحققت تقدماً في المنطقة الواقعة جنوب سد الشهباء، ومنها قرى سروج وحساجك والحصية، لذلك فإن «الدولة الإسلامية» يعتبر أن «الصحوات» هم من بدأوا الهجوم ضدّه، تنفيذاً لأوامر خارجية.
وإذا وضعنا هذه المعطيات، إلى جانب المشاريع الإقليمية المطروحة للتطبيق على الساحة السورية، وعلى رأسها مشروع المنطقة العازلة، الذي تشير كل المعطيات إلى أنه مدعوم من المثلث التركي – السعودي – القطري الذي وضع كل ثقله وراء «جيش الفتح» لإنجاز التقدم في إدلب، ندرك مدى التعقيد الذي تذخر به الساحة السورية، وحجم الاحتمالات الهائلة التي يمكن أن تنتج عن هذا التعقيد.
وقد تزداد الصورة غموضاً في ظل التساؤل المنطقي: لماذا لم ينجح المثلث التركي – السعودي – القطري في تشكيل «جيش الفتح» في حلب، على غرار ما فعل في إدلب، ولاسيما أن الفصائل المشاركة تتبع للقيادات نفسها؟ ولماذا تشكلت غرفة عمليات «فتح حلب» من دون إشراك «جبهة النصرة» فيها، في حين أن «النصرة» كانت رأس الحربة في إدلب؟ وهل يشير ذلك إلى عدم شمول حلب بالتقارب بين دول المثلث السابق، أم أن دولاً كبرى، مثل واشنطن، ترفض ذلك لأنها تعتبره التفافاً على مطلب المنطقة العازلة الذي ما زالت ترفض تأييده، أم أن الخلافات القديمة بين فصائل حلب استعصت على الحل وحالت دون توحيدها كما حصل في إدلب؟
وكان «الدولة الإسلامية» بدأ هجومه في ريف حلب الشمالي منذ أيام عدة، إلا أن وتيرة الهجوم اشتدّت صباح أمس، حيث تمكّن عناصره من إحراز تقدّم على الأرض من خلال سيطرتهم على بلدة صوران ذات الموقع المهم لقربها من مدينة إعزاز الحدودية مع تركيا، والتي تعتبر هدفاً أساسياً للتنظيم، وسيطروا كذلك على قريتي أم حوش والحصية، قاطعين بذلك خط الإمداد نحو مدرسة المشاة التي تتمركز فيها قيادات الفصائل، كما سيطروا على قرى البل والقرمل والتوقلي وأم القرى وتلالين، الأمر الذي ضيّق الخناق على مدينة مارع التي تعتبر معقلاً أساسياً من معاقل الفصائل المسلحة، وتتمتع بأهمية كبيرة، لأن السيطرة عليها تفتح الطريق نحو مدينة حلب التي لا تبعد عنها سوى 35 كيلومتراً، ونحو بلدتي نبل والزهراء المحاصرتين منذ حوالي ثلاث سنوات. كما أن من شأن السيطرة على مارع أن تضع مدينة عفرين، ذات الغالبية الكردية، في عين الخطر.
ولا شك في أن تزامن الهجوم على مارع وإعزاز مع تقدم «وحدات حماية الشعب» الكردية في الحسكة ومحيط تل أبيض بريف الرقة، يشير إلى حجم التعقيد والتداخل في الساحة السورية. وقد يكون أحد أهداف «داعش» هو تهديد الأكراد في عقر دارهم في عفرين ردّاً على تقدمهم في الحسكة، كما أن تهديد غرفة عمليات «بركان الفرات» (ضمنها «وحدات حماية الشعب» و «لواء ثوار الرقة» وفصائل أخرى) بالهجوم على تل أبيض قد يكون الجواب عليه هو الهجوم على إعزاز، وبالتالي الاستعاضة عن معبر تل أبيض الحدودي مع تركيا في حال سيطرت عليه «بركان الفرات» بمعبر باب السلامة قرب إعزاز. بالإضافة إلى أن مارع لها رمزية خاصة لدى «الدولة الإسلامية»، لكونها المدينة التي قتل فيها حجي بكر في بداية الاقتتال بين الفصائل و «داعش» العام الماضي، وهو ما يعطي المعركة في أحد جوانبها طابعاً انتقامياً.
ميدانياً، أفادت مصادر إعلامية أن الهجوم على بلدة صوران، التي تبعد سبعة كيلومترات عن مدينة إعزاز الحدودية، تضمن تفجير سيارة داخل البلدة، أعقبه قصف كثيف بقذائف المدفعية والهاون، تمكّن إثره مسلحو التنظيم، الذين هاجموا البلدة من محاور عدة، من السيطرة عليها إثر اشتباكات عنيفة استمرت ساعات عدة.
وكان مسلحو «داعش» سيطروا في آب الماضي على بلدات دابق واخترين واحتيملات القريبة من صوران. وقد تسبب سقوط صوران بانهيار واسع في معنويات مسلحي الفصائل في بعض القرى المجاورة، الأمر الذي أدّى إلى سقوط بعضها بيد التنظيم من دون قتال يذكر. وصدرت مناشدات كثيرة من ناشطي المنطقة وقادة الفصائل فيها، لا سيما قيادة «لواء الفتح»، بضرورة إرسال تعزيزات إلى ريف حلب الشمالي وإلا فإنه مهدّد بالسقوط بشكل كامل، في حين أشار «اتحاد ثوار حلب» إلى أن بعض الفصائل تقف على الحياد ضد «داعش».
وبعد سيطرته على القرى المحيطة بها عمد «الدولة الإسلامية» إلى استهداف مدينة مارع بقذائف المدفعية والدبابات، ما أدى إلى اشتعال عدد من المباني وسقوط قتلى وجرحى، وخلق حالة من الإرباك في صفوف المسلحين والمدنيين وسط إشاعات بثّها نشطاء مقرّبون من «الجبهة الشامية» بأن عناصر التنظيم سينفذون مجازر بحق عوائل وأهالي قادة الفصائل المسلحة اذا سيطروا عليها.
وفي محاولة لوقف الانهيار الحاصل في صفوف مسلحي الفصائل، أعلن متحدث باسم «الجبهة الشامية» أن اجتماعاً موسعاً يضم عدداً من قادة الفصائل الكبرى سيعقد قريباً لدراسة الوضع وتشكيل غرفة عمليات لمواجهته.
يشار إلى أن هجوم «داعش» على ريف حلب الشمالي تزامن مع اتهامات واسعة وجهت إلى الجيش السوري بارتكاب مجزرة في مدينة الباب التي يسيطر عليها التنظيم التكفيري، بسبب استهدافها بغارات جوية عدة. وتحدث بعض نشطاء حلب المعارضين عن سقوط العشرات من مسلحي «داعش» والمدنيين بين قتيل وجريح. إلا أن هذه الاتهامات سرعان ما اختفت وحل محلها فجأةً الحديث عن مساعدة الجيش السوري لتنظيم «داعش» في قصف مدينة مارع! وهو ما نفته صراحة «شبكة أخبار مارع» المعارضة.
صحيفة السفير اللبنانية