استبدادية تسييس الدين (ميشيل كيلو)
ميشيل كيلو
في الفكر الديني، وخاصة السياسي منه، الإنسان مؤمن، ومن ليس مؤمنا لا يتساوى في قيمته مع المؤمن، فلا حامل للسياسة في نظره غير الإيمان بوصفه منبع جميع القيم، خاصة السياسية منها. بما أن الإيمان يعد عامل تمييز وليس عامل تساو بين بني البشر، فإن تعيين السياسة بمفردات الفكر الديني وارتكازها عليه لا يتوقف عن سوقها نحو نزعات مذهبية تقوم على التفريق بين المؤمن والإنسان، فلا مفر من ان تفضي إلى نزعة طائفـية تقـتل روح الدين وتـخالف نصـه وتقوض رسالته الإنسانية وسمـوه، لكونها تنسى أن الله استخلف الإنسان في الأرض ولم يستخـلف المسلم أو المؤمن، وأن لهذا معنى فلسفيا وعمليا مهما جدا في حياة البشر ونمط تنظيماتهم، يقول بضرورة إقامتها على المساواة بينهم باعتبار إنسانيتهم سابقة لإيمانهم، الذي لا بد أن يتحدد بها عوض أن تتحدد هي من خلاله وحده.
هنا أيضا، يحدث ما سبق أن رأيناه في مثال الاستبداد الطائفي العلماني الادعاء، وينقلب وعد الدين السامي بالخير والحق إلى سياسـات يمليها فكر ديني هو اجتهاد بشري يخال نفسه مقدسا ويجبر الناس على تقديس أفعاله، يبدأ استبداده عبر علامتين تسمان مواقفه، هما:
– اعتبار أي مسلم إسلاميا بالضرورة والقـطع، اراد ذلك ام رفضه، وتنطح جماعات السياسة الاسلامية للتعبير عنه بزعم ان الاسلام لا يحتمل قراءة سياسية غير التي تقدمهـا هي. ومـع ان واقع الامور ينـاقض تماما هذه المغالطة، ويرينا ان غالبـية المسلمين ليسوا من انصـار الاسلام السـياسي، وان المواطن العـادي نادرا ما يكون منضويا في جماعـاته او واضـعا مصـيره بـين يدي قـواه المتناقضة والنّزّاعة اكثر فاكـثر الى عـنف ينحو الى التطرف، بدلالة ما نراه من ممارسات تخويفـية وقسرية تنتهـجها معظـم الاخـويات الاسلامية في تعاملها مع الرأي العام، وفي نظرتها الى نفسها، التي يصح تلخيصها على النحو التـالي: شعـبنا في غالبيته مسلم، وهذا صحـيح، لذلك يجد فينا نحن ممثله السياسي، هذه مغالطة تفضي إلى نتائج بالغة السوء بالنسبة الى مجمل الحياة المجتمعية، تشحنها بالعنف والروح الفئوية، على الضد من الاسلام كدين كان على مر التاريخ، وعلى رغم ما مر به من محن واختبارات، اكبر من اي حزب او جماعة، وبقي وسيظل صرخة مدوية ضد أي عنف وتمييز. ليس إيمان المسلم العادي خيارا سياسيا كي تصادره جماعات سياسية تنسب نفسها الى الدين، أي تضفي طابعا دينيا على سياساتها، لتوهم العـامة بوجود طابع خاص لها، روحي وغير سياسي، تتجلبب به ليمنحها ضربا من العصمة يميزها عن الاحزاب والجماعات السياسية الاخرى، يترتب عليه بالضرورة تسليم عامة المسلمين بعصمة نهجها، خاصـة ان قـادتها ليسوا سياسيين بل مرشدين دينيين، تتخطى بصيرتهم الوقائع الى اسبابها العميقة والخفية، الكامنة في حقائق دينية تعرفها وحدها دون بقية خلق الله.
– ان ما تقوله هو معادل الدين السياسي وما عداه لا يمكن ان يكون اسلاميا، بل انه قد يكون في اغلب الحالات معاديا الاسلام ومحض كفر. هذه المغالطة تبعد الساسة عن الدنيا، وتدخلها الى مجال خطير جدا عليها هو مجال المقدس، الذي يحشر ممثليها في صف المعصومين وجماعاتهم في عداد اصحاب الرسالات المكلفين بهداية غيرهم، باية وسيلة كانت. هذه المغالـطة تنزل بالدين من عليائه الروحي والاخلاقي ومن حقائقه الكلية السامية الى عالم مصالح متناحرة لا تهتم كثيرا بالحقيقة ولا تنطلق منها او ترى فيها مرجعية لها. رغم ذلك، لا ترضى الجماعات المذكورة أن تكون مواقفها أقل من معادل موضوعي وتام لما يريده الدين، أو لما يمليه وينبثق عنه، ولا تقبل أن تكون أحكامها بشرية المنطلق والغاية. لذا، نراها تتحدث لغة غير سياسية انضجتها حاضنة قيمية غير سياسية وغير دنيوية، رغم انها لا تني تؤكد أن افعالها هي السياسة بامتياز، وانه يتساوى فيها القصد القدسي مع فاعلية الجماعة البشرية، فلا غرابة أن طالبت الآخرين بمعاملتها كجهة منزهة عن المقاصد الخاصة والحزبية، وارادت لهم ان يروها باعينها، وإلا اخرجوا من عالم الايمان، المساوي لعالمها السياسي.
هل يمكن ممارسة السياسة كـحاضنة وطنية وانسانية جامعة، كحقل مشاركة وانتـظام ديمـوقراطي وعدالة ومساواة، في ظل هذا القدر من الابتعاد عن المعايير العقلانية والتنكر للقـيم التي تحترم الانسان وتقر باولويته ككائن حر ويتـعين بحريته قبل اي شيء آخر؟ وهل تنتج هذه النظرة الادواتية المغطاة بحمولة مقدسة مواطنا يقرر بنفسه موقعه من وطنه ومجتمعه، ام تنتج ايديـولوجـية دنيوية جدا تتلاعب به وتحشره في المكان الذي تريده له والدور الذي تفرضه عليه او تخصه بممارسته، مع ما يثيره ذلك من توتر مجتمعي وسياسي عام، ويشيعه من اجواء حافلة بالتناقضات والخلافات، تشمل معظم المواطنين من غير اتباعها او المنضوين في مخططاتها وانشطتها، الذين لا تعاملهم كمختلفين سياسيا وايديولوجيا، وانما تنظر اليهم كاعداء للدين وكخارجين عن الايمان: كمرتدين يجب ردهم الى طريق الدين القويم بادوات السياسة، مع ان جريمتهم ليست سياسية اصلا.
هل هناك حاضنة لاستـنبات الاستـبداد اكثر ملاءمة من هـذه الحاضـنة، التي ترفض الاقرار بان الإنسان ذات حـرة وتتـعين بحريتـها، وبأنه مواطن في دولة تقوم على احـترام حـقوقه كانـسان (حريتـه) وكمواطن (مشاركـته في تقـرير الشأن العام)، فليس مـن الجـائز إلحـاقه بأي شيء عـداه أو خـارجـه، ولا بد من بناء نظام الدولة والمجتمع على خاصتيه هاتين اللتن لا يستطيع ممارسة إيمانه بدونهما.
تلقيت قبل أسابيع رسالة احتجاجية من صديق إسلامي يستنكر فيها انتقادي «جهـات اسلامـية تمارس الكـذب طمـعا في السلطـة والجاه». هذا الصديق اتهمني بمعاداة الاسلام والثـقافة العربيـة الاسـلامـية، وذكـرني بان هذا يغـير مواقفـي الوديـة مـن المسلمـين والدين الحنـيف. هـنا، في قـول صديـقي، تكمن جذور الاستبداد المحتمل الذي قد تواجهه سوريا المستقبل، إن اصرت بعض الاخويات الإسلامية على مماهاة موقفـها مع الدين، واعتبرت اي نقد موجه إليها نقدا له وللثقافة العربيـة الإسلامـية، مع أن الاخيرة لم تكن من صنع المسلمين وحدهم، بل شارك فيها ابناء اديان اخـرى نعموا بسماحة الإسلام وسعة صدره. وقد سألت الصديق في ردي: أي حرية ستبقى لنقد مواقفكم، إن كنتم تعتبرونها الإسلام والثقافة العربيـة الاسلامية؟ وهل سنخرج حقا من الاستبداد إن تمتعت آراؤكم بقدسية تجـعلها عصية على الخطأ ؟ وماذا يـبقى في هذه الحال من السياسة كتدبير بشري حمال أوجه، تمليه معايير وقواعد وخبرات طورها بشر مفعـمون بالعـيوب، لـيس من اجل ان يضفوا العصـمة على اقوالهـم وأفعالهـم، بل ليتعلم من يمارسونها كيف يديـرون بادنى حد من الأخطاء تناقضات الواقـع التي لا مهرب من وجودها، ويقلـلون أخطاءهـم ويتعـاملون مــع الدنـيا باعتبارها موضوع فاعلية إنسانية مفعمة بالنواقص والعثرات، يستحيل أن تبلـغ الكمال، لسـبب بسـيط هو أنها فاعلية بشرية محكومة بظروف متبدلة ومتناقضة.
لا داعـي للـقول إن هذا الموقـف يحـول الدين إلى مذهب ضيق خاص بهؤلاء، وينقله من مجاله الروحي إلى مجال أيديولوجي يسوغ نزعة طائفية قد تتبناها أغلبية تواجه «أقليات «إسلامية وغـير إسلاميـة، تترجم نفسها بصور شتى الى عراك مذهبي وطائفي ، تحول بين هذه الأغلبية وبين رؤية نفسها ككـتلة وطنية لا بد ان تتبنى مطالب ديموقراطية تواجـه بها الاستبداد، علما بان طائفيتها المعاكسة تنجب استبـدادا لا يحول ولا يزول، ينتـجه نظام الانتـخابات الحـرة الذي كفل لها التفوق العددي في البرلمان وتشكيل حكومات منتخبة من «الشعب»، تسوق كحكومة تعبر عن ديموقراطية تمثيلية تسـتند إلى إرادة الناخبين، يصعب اعتــبارها ظاهريا من الاستبداد.
نحـن هـنا في مواجـهة نموذج منـتج للاستبـداد يبدأ بتحـويل الدين إلى فكر سيـاسي يستـخرج خياراته منه ، لا يلبث التمييز ان يتسلل إلى مواقـفه، لأنــه يعرف الإنسـان كمؤمن، اي كـتابع للدين الذي ينتمي هو إليه، لذلك نـراه يحـول فـكره الدينــي إلى مذهبــية تضيق إلى أن تصير طائفـية يتم انطـلاقا منـها انتـاج نظـام سـياسي يــسمى كذبا اسلاميا، رغم تعارض الإسلام كدين سماوي مع الطائفـية والمذهبية، ورحابته الإنسانية القائمة على استخلاف الإنسان في الأرض. هل يغير شـيئا من الأمر أن الاستبداد يقوم هنا على الأغلبية الـعددية، الـتي تتحول إلى طائفة سياسيـة ذات ارضيـة مذهبـية فئوية ما دون مجتمعية، شأنها في ذلك شأن الاستبداد الذي أنكر المواطنة كمبدأ، واستند إلى طائفة هي أيضا تكوين ما دون مجتمعي؟ ألا نكون على حق إن نحن تخوفنا من تخلصنا من استبداد أقلية تمسك بالسلطة، او سلطة تستند إلى أقلية، فوقعنا في استبداد اغلبية تمتلك حكومة برلمانية تنتخب على أرضية مذهبية تضمن بقاءها في السلطة ما دامت قادرة على إدارة صراعات طائفية في دولة يستحيل أن تكون ديموقراطية؟
صحيفة السفير اللبنانية