يأخذك كتاب «تقديم الإحاطة للرئيس: استجواب صدّام حسين» إلى عالم قلّما ندخله: وهو عالم مناقشة الرئيس الأميركي لشؤون السياسة الخارجيّة المتعلّقة بالشرق الأوسط. المؤلّف، جون نيكسون، درس العلاقات الدوليّة ثم تخصّص في قسم التحليل في وكالة المخابرات الأميركيّة. يُعرِّف عن نفسه في الكتاب بأنه خبير في شؤون الشرق الأوسط مع أنه لا يعرف لغاته ولم يدرسه أكاديميّاً. عاش في الشرق الأوسط لأربع سنوات فقط كما أنه تخصّصَ في الشأن الكوري الشمالي، أي أن اختصاصه هو في شؤون أعداء أميركا بصرف النظر إذا كان قد تجمّع للمحلّل ما يُفترض أن يتجمّع عنده من معرفة اختصاصيّة في دول متنوّعة. وهو يشير في الكتاب إلى نواقص جمّة في المعرفة الأميركيّة عن الشرق الأوسط، لكنه يسقط هو الآخر فيها، من دون أن يدري.
شخصيّة صدّام حسين لم تكن عاديّة في التاريخ المعاصر. هو كان وحشياً حتى بالمقارنة مع طغاة عرب معاصرين، كما أنه كان مصاباً بعقد نرجسيّة هائلة جعلته يرفض المقارنة حتى بكبار القادة العرب التاريخيّين (يظهر هذا في مقابلاته، التي جُمعت في كتاب، مع فؤاد مطر، كما يظهر في نصوص استجوابه في الأسر الأميركي). صدّام لم يكن كما غيره من القادة العرب: لم يطمح أن يخلف جمال عبد الناصر. هو يعتبر أنه أهمّ منه وأكبر منه. تسلّق صدّام في الحزب وفي الدولة بمهارة وتخطيط هائليْن، بالإضافة إلى استعداد للبطش متى دعت حاجة النظام أو متى أتاه الحدس المخيف. هو الذي كان يقول إنه يستطيع فقط بالنظر إلى عينَي الشخص أن يحكم ما إذا كان خائناً أم لا. وهناك اليوم سجالٌ مستمرّ في العراق حول صدّام: القوى المستفيدة من الاحتلال الأميركي ومجرياته (مثل القوى الطائفيّة الشيعيّة) تريد أن ينحصر الحديث حول الطغيان والقتل والتعذيب في مرحلة صدّام كي تقطع مع مرحلة الاحتلال الأميركي الذي تسبّب بقتل وتدمير فاقا تدمير وقتل صدّام. وهناك من يستذكره بحنين لأسباب طائفيّة.
وصورة صدام وظاهرة عبادة شخصيّته انشغلت بعناية ومبكراً عندما كان نائباً للرئيس. كان يرأس المجلس الأعلى للإعلام والثقافة ويأمر بتجميل صورته في أذهان الناس. الذي في سنّي لا يزال يذكر كم أنفق صدّام على شراء الكُتّاب والمثقّفين، في العالم العربي والغربي على حدّ سواء. هناك أكاديميّون غربيّون لمّعوا صورة صدّام مقابل المال. فؤاد مطر كتب في مديح صدّام أكثر مما كتب في العشرين سنة الماضية في مديح حكّام السعوديّة. معظم، إن لم يكن كل، عمداء الصحافة في بلادهم تلقّوا عطايا من صدّام. الذي كان يحظى بمقابلة صدّام بين الصحافيّين العرب كان يتلقّى سيارة مرسيدس جديدة ومبلغاً كبيراً من المال (ما يعادل مئة ألف ليرة في حينه). وإعلام الخليج ساهم بصورة فعّالة في تكبير صورة صدّام في الحرب العراقيّة الإيرانيّة. وخلافاً للصورة التي تنتشر عنه اليوم من قبل المحور المعادي لإيران، فإن صدّام لم يكن مبدئياً حول فلسطين. هو الذي أنهى رعاية «جبهة الرفض» الفلسطينيّة في الوقت الذي كان السادات يتجه نحو إسرائيل. وهو الذي أرسل نزار حمدون أثناء عهد ريغان كي يقيم علاقات مع اللوبي الإسرائيلي (كانت حفلات عشاء نزار حمدون تضمّ أشخاصاً مثل جين كيربارتريك وستيفن سولارز، وهما من عتاة أركان اللوبي الإسرائيلي في حينه. لم يترك حمدون صهيونيّاً نافذاً من دون أن يتقرّب منه، وكافأه النظام على خطته تلك). وقراءة كتب أركان نظام صدّام، بمن فيهم ناجي الحديثي ونزار الخزرجي، لا تدع مجالاً للشك بأن صدّام كان يعتبر أن إيران لا إسرائيل هي العدوّ الرئيسي له. وعن إسرائيل كان لصدّام فلسفة لا تختلف عن فلسفة محمود عبّاس ومفادها: لا يجب علينا أن نقوم بأي عمل ضد إسرائيل، أي إن التطوّرات كفيلة بتهديم أعمدة النظام. عبّاس عوّل على التغييرات الديموغرافيّة وصدّام عوّل على بناء قوّة العراق كي تصبح أهم من إسرائيل في نظر الغرب. يمكن لنا الحكم على نظريّة بناء صدّام لقوّة العراق. وتكفي مقارنة القوّة التدميريّة (التقليديّة والكيمائيّة) التي استعملها صدّام في قصف الإيرانيّين مقارنة بالقصف الفولكلوري لإسرائيل وهو اعترف أن ذلك كان بهدف الضغط على أميركا فقط وليس من ضمن استراتيجيّة ضد إسرائيل.
الكتاب الذي بين أيدينا يكشف الجهل بقضايا الشرق الأوسط على مستوى البيت الأبيض وعلى مستوى المحاربين الأميركيين في العراق. عندما ألقت قوّات أميركية القبض على صدّام، تعرّض للضرب وواحد من الجنود لكمه قائلاً: «هذه من أجل 11 أيلول» (ص. 14). لا يزال هناك في المجتمع الأميركي بين من يربط بين 11 أيلول وصدام حسين. التحليل من قبل المُحلّل الخبير يصل إلى درجات كوميديّة، بالحرف، أحياناً. تراه يشبّه العلاقة بين صدّام وإخوته بالعلاقة بين الإخوة ماركس (الفريق الكوميدي المعروف). ويشعر نيكسون أن كل ما يقوله صدّام لا قيمة له، حتى ولو كان ما يقوله صائباً. هل يختلف اثنان أن أميركا لا تتحمّل وجود دولة عربيّة تتمتّع بجيش قوي وحكومة مستقلّة؟
ويعترف المؤلّف بسخافة بعض ما كانت الحكومة الأميركيّة تظنّ أنها تعلمه عن العراق وعن صدّام. قصّة استعانة صدّام ببديل شبيه له مثلاً. هذه قصص ثبتُ بطلانها. أو أنه عانى في طفولته من عمّه فيما هو حمل صورة طيّبة عنه وأحبّه كثيراً كما روى لنيكسون (ص. 40). وخبراء الـ«سي آي إي» قرّروا أن صدّام تخلّى عن أكل اللحوم وعن تدخين السيجار. ضحك صدّام عندما سمع ذلك (ص. 40). والصورة التي يرسمها نيكسون أفضل من صورة صانعي القرار عن الشرق الأوسط لكنها تحمل هي الأخرى قيماً ومفاهيم استشراقيّة أو معلومات خاطئة بالكامل. هل هناك عذر كي يظن خبير حكومي أميركي أن حاكم سوريا اسمه بشير الأسد؟ هذا نتاج لغياب التشديد على تعلّم اللغات في دراسة المنطقة. وهناك إشارة إلى المال الذي كان بحوزة صدّام عندما أُلقيَ القبض عليه، وهناك تذمّر من قبل صدّام عن سرقة بعض أمواله من قبل الجنود الأميركيّين لكنّ القسم من الكتاب مطليّ بالأسود من قبل رقابة الحكومة الأميركيّة التي فرضت حظراً على بعض ما أراد الكاتب أن ينشره.
وبعض ما يرد في الكتاب هو ترسيخ لما سمعه المؤلّف من قبل. يقول: صدام هو «أكثر شخص شكّاك قابلته في حياتي» (ص. 38). هل تحكم على ذلك بناءً على استجواب أسير؟ هو واقع في الأسر الأميركي وكيف لا يكون شكّاكاً؟ ويعترض المؤلّف على انزعاج صدّام من الأسئلة الشخصيّة التي كان يتعرّض لها من قبل مستجوبيه، أسئلة عن زوجته وعن سميرة شهبندر. وهل المؤلف لن ينزعج لو أن غريباً سأله عن زوجته؟ هنا، لا داعيَ للكلام الاستشراقي عن العرض والخجل والذكوريّة. وينفي المؤلّف زعم صدّام أنه تعرّض للتعذيب مع أنه يعترف أنه تعرّض للضرب عند اعتقاله. يتحدّث الكاتب عن التعذيب الذي تعرّض له مساجين صدام في أبو غريب لكنه ينسى ما تعرّض له مساجين أميركا في السجن نفسه.
ويصرّ صدّام في الاستجواب عن اجتماع قاعة الخلد على أنه تعرّض يومها لمؤامرة من «البعث» السوري. هنا يلحظ المؤلف اللماح أن جفن صدّام كان يرتجف أثناء الحديث (ص. 43). وهو يلحظ أن صدام يجفل كلما سمع اسم الكويت (ص. 48). ماذا يدرس المرء كي يصبح مثل نيكسون خبيراً في حركات الوجه والجسد؟ ويزعم المؤلّف أن أحداً لا يفهم «الشارع العراقي» كما صدام حسين. ما قصة افتتان خبراء الغرب بمفهوم الشارع بالنسبة إلى العرب؟ لماذا لا يتحدّثون عن الشارع الأميركي؟ ويزعم المؤلّف أن عاطفة صدام لم تظهر إلا عندما تحدّث عن ابنتيْه (يزعم المؤلف أن صدام اعترف بطريقة غير مباشرة عن وجود ابن له، اسمه علي، من شهبندر). ويرجّح المؤلّف أن صدام قتل عدنان خيرالله لكن ليس من دليل على ذلك وكانت العلاقة بين الرجليْن وثيقة وهي استمرّت وثيقة في كل مراحل الحكم حتى وفاة خيرالله. وحالة الطقس هي السبب الأرجح لسقوط طائرة خيرالله. وصدام يخبر المؤلف أن كل مشاكله بدأت عندما توفي خيرالله الذي كان محبوباً من قبل عناصر الجيش والجنرالات.
ويعيّر صدام الزعماء العرب من الملك حسين إلى «بشير الأسد» (ص. 53) والملك عبدالله الأردني. وعن جمال عبد الناصر يقول: «كان رجلاً جيّداً لكنه لم يعش طويلاً لتنفيذ خططه. وقد تسرّع في عقد صفقات مع أعدائه الذين لم يحترموا الاتفاقيات». يقول نيكسون: «ولا مرّة أثنى صدام على زعيم عربي (غير عبد الناصر) بالمديح المطلق. بالنسبة إليه، الزعماء كانوا رجالاً أقلّ قدرة منه ولا يتمتعون بذكائه ودهائه». يقول المؤلف إن صدام كان يطلب دائماً «مواد كماليات»، ما هي؟ ورقة وقلم(ص. 53).
يحاجّ الكاتب في مقولة كنعان مكية عن «جمهورية الخوف» ويقول إن صدام لم يحكم بالخوف وحده. لكنه لا يحدّد الفترة الزمنيّة التي كان يتكلّم عنها. في بداية الحكم، أحاط صدام نفسه بمجموعة من العلماء والمثقفين والإعلاميّين وكان ينسب إلى نفسه خطط التنمية والنهوض الاقتصادي. لكن حتى في تلك الفترة، كان الخوف سائداً. لكن صراعات «البعث» ضد الخصوم ساهمت في تخفيض منسوب التمرّد والرفض عند العراقيّين. وينفي نيكسون بشدّة المقولة بأن صدام معجب بهتلر ويعترف أن إقحام تشبيهه بهتلر كان عملاً سياسياً (ص. 60). ويبدي صدّام استغرابه للجهل الأميركي بالشرق الأوسط والعراق تحديداً لأن العرب لديهم صورة مضخّمة عن معرفة الغرب بشؤوننا ويحترمون كل حامل منصب يتعاطى في شؤون منطقتنا حتى لو كان جاهلاً فيها (الكثير من المسؤولين الأميركيّين الذين يتعاطون مع الشرق الأوسط غير عليمين بشؤونه، فما بالك بالمسؤولين العاديّين في المناصب العليا في الحكم؟). تعجّب صدام أن تكون أميركا جاهلة بالرغم من مواردها الماليّة. لكن صدام نفسه كان جاهلاً بشؤون الغرب ولم يحسب بدقّة مضاعفات قراره باجتياح الكويت الذي كان قراراً عائليّاً محضاً. ويتوقّع صدّام أن تفشل أميركا لأنها لا تفهم «العقل العربي». عدنا إلى مقولة العقل العربي الاستشراقيّة.
ويختم المؤلف كتابه بالحديث عن جلسات عقدها مع جورج دبليو بوش في موضوع صدّام حسين واستجوابه. هنا، لا يستطيع نيكسون أن يخفي احتقاره لبوش. شخصيّة بوش في البيت الأبيض لا تختلف عن شخصيّات طلاب سنة أولى جامعة وهم في مركز «الأخويّة» يحتسون الجعة. بوش جمع بين الجهل والثقة بالنفس. ولا يمانع بوش في المزاح بالنسبة إلى أسلحة الدمار الشامل. لم يكن بوش يعلم شيئاً عن الإسلام فأعطوه بضع جلسات عنه. وعندما أعلموه بالانقسام الإسلامي بين سنة وشيعة قال: «لحظة. كنت أظنّ أنهم كلّهم مسلمون» (ص. 81). مقتدى الصدر بالنسبة إليه هو أزعر ولا تأثير له، لكنّه أراد قتله.