استراتيجيات كونية تزعجها ثورات طائفية

مع اقتراب موعد مغـــادرة باراك أوباما البيــت الأبيض، تزداد الحاجة إلى تقييم فترة ولايته، وربط هذا التقييم بحال العالم في مطلع القرن الحادي والعشرين.

يُحسب لباراك أوباما أنه حقق في حملته الانتخابية كثيراً مما وعد به على صعيد السياسة الخارجية. كان أهم وعوده وعد سحب القوات الأميركية من الخارج، وبالتحديد من أفغانستان والعراق، وعد أيضاً بوقف تجاوزات معينة، مثل التعذيب وفرض إرادة أميركا باستخدام أدوات القوة والاحتلال والتدخل بالعنف في شؤون الدول الأخرى.

نجح أوباما، بالفعل، في سحب معظم قواته من أفغانستان والعراق، واستبدل أساليب القوة والاحتلال والتدخل بالعنف بأساليب ديبلوماسية وإقامة شبكات من اتفاقات التجارة مع الدول الأخرى، وتشجيع عقد تحالفات واتفاقات للأمن المتبادل والتدريبات المشتركة. استطاع أيضاً تطوير دور أميركا في حفظ الأمن الدولي وحماية مصالحها ومصالح الغرب العسكرية في الخارج باستخدام أوفر ومكثف للقوة الجوية والعمليات الخاصة والطائرات بدون طيار. وبالفعل انخفض بشكل ملحوظ حجم الخسائر البشرية في القوات المسلحة الأميركية عن خسائر أي مرحلة في السنوات الأخيرة من النشاط العسكري الأميركي في الخارج.

]]]

على صعيد آخر، لا يمكن إنكار نجاح أوباما في إنهاء التأزم الدائم في علاقات أميركا بدول معينة في الخارج. نجحت ديبلوماسيته في تحويل مسار التوتر في العلاقات الإيرانية الأميركية وحل العقدة التي بدأت بأزمة الرهائن وفشل التدخل العسكري الأميركي. ولا شك في أن التاريخ الديبلوماسي لن يُغفل الإشادة بصبر ودأب الديبلوماسية الأميركية على امتداد شهور عديدة لتحقيق تسوية معقولة بين الولايات المتحدة والتجمّع الدولي من جهة، وإيران من جهة أخرى. كذلك يصعب تجاهل إصرار الرئيس الأميركي على فتح أبواب لعلاقة جديدة مع بورما التي خضعت لحكم عسكري طويل الأمد وأقامت علاقات متينة مع الصين على حساب العالم الخارجي. كان انفتاح بورما خطوة لها مغزاها في تنفيذ برنامج أوباما الخاص بتحويل الاهتمام الاستراتيجي لأميركا في اتجاه آسيا. يُحسب لأوباما كذلك أنه أفلح في ما فشل فيه رؤساء أميركا على امتداد عقود عديدة وهو استعادة العلاقات الطبيعية مع كوبا. بهذا الإنجاز وحده استطاع أن يستعيد لأميركا كثيراً مما فقدته من مكانتها وهيبتها في قارة أميركا اللاتينية، وتفادى احتمالاً قوياً بأن يأتي يوم تتخذ فيه منظمة الدول الأميركية قراراً بوقف عضوية الولايات المتحدة أو فرض عقوبات عليها. هذا الاحتمال كان مطروحاً بشكل أو بآخر في المؤتمرات الأخيرة لقمة الأميركيتين.

]]]

هناك مؤشرات على أن التعذيب لم يعُد يمارَس على نطاق واسع في معسكرات الاعتقال الأميركية، وأن عمليات التخريب التي تمارسها أجهزة الاستخبارات الأميركية قد تقلصت، إلا أن وقائع الحال والتاريخ، تشهد على أن هذه الأمور لا يمكن التأكد منها قبل مرور سنوات عديدة. نحن نعرف الآن عن أمور ارتكبتها هذه الأجهزة لم نعلم عنها شيئاً في وقت وقوعها. الأمثلة كثيرة. ففي العام 1951 قرر الرئيس هاري ترومان تسليح 12,000 متمرد من قوات الصين الوطنية لغزو الصين انطلاقاً من شمال بورما. أثمر قرار ترومان كارثة رهيبة دفعت بورما ثمنها غالياً من حكم عسكري شديد القمع والتخلف الفكري سياسياً واجتماعياً. استمر أربعين عاماً، وأسفر عن علاقة ثنائية فريدة بين الصين وبورما بعيداً عن أعين السياسة الدولية. لم يبدأ الوضع في بورما في التغيّر إلا عندما وصلت هيلاري كلينتون إلى رانغون، ولحق بها الرئيس أوباما بنفسه في العام 2012.

نذكر أيضاً أن الولايات المتحدة ارتكبت في عهد الرئيس أيزنهاور حوالي 170 عملية تخريب استخباراتية في 48 دولة، اثنتان من هذه العمليات تسببتا في وقوع ضرر جسيم لسمعة أميركا ومصالحها. ففي العام 1953 قرر أيزنهاور تغيير النظام في إيران وعزل مصدق رئيس الوزراء، وقام بتدريب شرطة سياسية «السافاك»، كجهاز قمع واستبداد، وجاء بالشاه صغيراً إلى الحكم، فارضاً عليه الوصاية الأميركية. نعرف الآن أن هذا القرار أفرز مشاعر معادية لأميركا في كل أنحاء الشرق الأوسط، وفي النهاية نشبت ثورة في العام 1979 أطاحت بالشاه وبمصالح أميركا في إيران واستهلكت 35 عاماً من النزاع والتوتر بين البلدين. نذكر كذلك أن أيزنهاور في العام 1960 كلف وكالة الاستخبارات الأميركية تدريب بعض الهواة الكوبيين وعددهم ألف شخص، على غزو كوبا من البحر. وقد ورث الرئيس جون كيندي هذا القرار المتهوّر الذي أطال في عمر قطيعة بين البلدين استمرت 55 عاماً.

نعــــرف أيضاً أن الولايـــات المتحدة في عهد أوباما لم تتوقف عن التدخل عن طريق استخباراتها وعملياتها الخاصة في شؤون الدول الأخرى، ولكــــننا لم نتوصل بالتأكيد إلى ما يثبت أن هذا التدخل يحدث بالكثافة الـــتي كان يحدث بهـــا خلال عهود سـالفة على عهد أوباما. لا أحـــد يستبعد أن يأتي يـــوم تتكشف فيه وقائع ارتكبها أوباما، ولم يتح لنا أن نطلع عليها.

]]]

يبقى لنا ونحن نسعى لتقييم عهد أوباما وحصر إنجازاته وإخفاقاته في نواحي الديبلوماسية والأمن، أن نتوقف قليلا عند التحولات الاستراتيجية العظمى التي وقعت في عهد أوباما، بتدخل منه وقرار أو نتيجة تطورات دولية أشمل وأعمق. أعني تحديداً المنافسة التاريخية الجارية حالياً بين نظريتين في استراتيجية توازن القوى في النظام الدولي. نظرية منهما تقوم على فكرة قديمة، عادت إلى السطح بقوة، وهي فكرة السير ماكيندر عن الاعتماد الاستراتيجي على كتلة «أرضية» شاسعة ممتدة بتواصل لا ينقطع من أوروبا غرباً إلى الصين شرقاً أو بالعكس. نعرف أنه في مطلع القرن العشرين كان المركز المؤهل لتنفيذ هذا الحلم أو تلك الاستراتيجية هو أوروبا، بينما في مطلع القرن الحادي والعشرين نرى الصين وقد اضطلعت بلعب دور القيادة وطرحت آسيا مركزاً لها. السبيل لتحقيق هذا الحلم أو هذه الاستراتيجية، هو إيجاد شبكة طرق برية تربط أجزاء هذه المساحة الشاسعة من الأرض الممتدة من شواطئ المحيط الهادي شرقاً إلى شواطئ المحيط الأطلسي غرباً، وتقيم سوقاً واحدة وروابط أمنية وتعاوناً وثيقاً. هذه الشبكة لا تخرج عن كونها تطويراً لطريق الحرير وتحديثاً لاستراتيجية التحكم في العالم من خلال السيطرة على هذه الكتلة الأرضية الشاسعة.

]]]

على الناحية الأخرى، وجدنا الرئيس أوباما يشير في خطاب ألقاه في البرلمان الاسترالي في الــــعام 2011 إلى أن أميركا، بعد حربين في أفغانستان والعراق، عادت تنتبه إلى الإمكانات الهائلة في إقليم «آسيا والباسيفيكي»، باعتباره، حسب كلامه، الإقلـــيم الأسرع نمواً والممثل لأكثر من نصف الاقتــصاد العالمي. هكذا بدت ملامح الاستراتيجية الثانية، اسـتراتيجية الإحاطة من البحار والمحيطات بهذه الجزيرة الأرضية الشاسعة المساحة، المسماة صينياً وروسـياً وأوروبياً بأوراسيا. إذا كانت الصين وروسيا سوف تشيدان استراتيجيتهما للقرن الحادي والعشرين استناداً إلى هذه الكتلة الأرضية، فأميركا ســوف تسعى من جانبــها لإقامة سلاسل من الاتفــاقات التجارية المتعدّدة الأطـــراف والأحلاف والمـــعاهدات الأمنية والسياسية على امتـــداد البحار والمحيطات التي تطلّ عليها شواطئ أوراسيا.

لا جدال في أن السباق بين الاستراتيجيتين قائم ومتجدّد وكان يمكن أن تحقق أميركا تقدماً أسرع في تنفيذ قرارها التحول نحو آسيا، لولا أن عاد الشرق الأوسط يلعب دوره المفضّل في الإمساك بالدول العظمى حتى لا تفلت منه نحو الاهتمام بأقاليم أخرى.

الواضح لنا الآن هو أن المشروع الأوراسي يتقدّم بخطى حثيثة، بينما يتعطّل، بسبب الشرق الأوسط، المشروع الآسيوي الباسيفيكي الذي يعتنقه الرئيس أوباما.

صحيفة الشروق المصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى