استراتيجية “إسرائيل” الإقليمية في البحر الأحمر
استراتيجية “إسرائيل” الإقليمية من خلال نشاطها في البحر الأحمر وتحالفاتها مع الأنظمة المحيطة به يكمّل استراتيجيتها البحرية شرقي المتوسط، ويتلاقى نشاطها هذا مع الاستراتيجية الأميركية الدولية ضد الصين والهند وإيران.
مع ظهور أيّ بوادر لنظام دولي أو إقليمي جديدين، تتحفَّز الدول الفاعلة للعمل والاستيلاء على مواقع القوة ومصادرها، سواء كانت إقليمية أو دولية.
بدا منذ عقد على الأقل، أننا فعلاً على أبواب نظام دولي جديد يستبدل نظام القطب الواحد، وأمام متغيّرات إقليمية ما تزال متفاعلة في الشرق الأوسط وقد تؤدي إلى اصطفافات وتحالفات جديدة، خلقتها أو عزَّزتها مجمل أحداث “الحريق العربي” من حروب أو انقلابات داخلية أو عدوان خارجي، على سوريا أو اليمن أو ليبيا، فاهتزَّت أركان النظام العربي الذي كان سائداً حتى السنوات الأخيرة، كما اهتزت أركان كل نظام في المنطقة، وبات كل حاكم يبحث عن مكان له في حال الانقلاب عليه، أو حليف له يحميه من الحدث القادم.
في هذه الظروف الجديدة، برزت إلى السطح أهمية البحر الأحمر الاستراتيجية الإقليمية والدولية، بصفته أحد أهم الممرات المائية في العالم، إن لم يكن أهمها، فهو يربط بين المحيطين الهندي والأطلسي عبر البحر المتوسط، كما يربط بين 3 قارات، آسيا وأفريقيا وأوروبا، وتقع في محيطه مصادر الطاقة الأساسية في العالم، والتي لا تتحرك عجلة الاقتصاد من دونها، وتمر فيه أكثر من 21 ألف سفينة تجارية سنوياً، وأكثر من 2 مليار برميل من النفط سنوياً.
وعليه، يتّفق الاستراتيجيون شرقاً وغرباً على أنَّ من يسيطر على هذا البحر يسيطر على أحد أسس الاقتصاد العالمي، ومن يصعب عليه السيطرة على البحر الأحمر، عليه أن يخلق طرقاً تجارية عالمية وإقليمية جديدة، أو يتشارك مع دول أخرى للوصول إلى الهدف ذاته.
على الصعيد الدولي
لاحظت الولايات المتحدة بعد أزمتها الاقتصادية في العام 2008 القوة الاقتصادية الصاعدة للصين والهند، كما لاحظت الحضور والنفوذ الصيني المتصاعد في أفريقيا، ففي حين بلغت التجارة الأميركية مع أفريقيا في العام 2000 ما مقداره 38 مليار دولار، بلغت قيمة التجارة الصينية مع أفريقيا 10 مليارات دولار، ولكن هذا الميزان تغيَّر خلال عقد من الزمن، ليبلغ حجم التجارة الأميركية مع أفريقيا 113 مليار دولار في العام 2008، مقارنة بـ114 مليار دولار مع الصين.
وفي العام 2011، بلغت التجارة الأفريقية مع أميركا 126 مليار دولار، ولكن الصين تخطتها إلى 166 مليار دولار، فكان رد أميركا باتخاذ قرار استراتيجي لتعزيز قواتها في حوض البحر الأحمر، الممر الأساس اَّلذي يربط هاتين القوتين مع أوروبا وأفريقيا، والمضي بحملة دبلوماسية هجومية في أفريقيا ضد الوجود الصيني المتعاظم، في حين امتلكت إيطاليا واليابان قواعد عسكرية على شاطئ جيبوتي. في المقابل، أعلنت الصين مع بداية العام 2016 عن اتفاق مع جيبوتي لاستضافة أول قاعدة عسكرية صينية خارج بحر الصين.
على الصعيد الإقليمي
كانت سوريا أول الدول التي طرحت رؤية إقليمية في العام 2004، من خلال “مشروع التشبيك بين البحار الخمسة”، المتوسط والأسود وقزوين والخليج والبحر الأحمر، بحيث تكون في مركز هذه المنطقة، وتصل بين آسيا وأوروبا، وتربط بين دول ذات ثقافات قديمة ومتجددة على أساس المصالح المشتركة وتكاملها.
أزعج هذا المشروع أميركا والعديد من الدول الإقليمية على حد سواء، وازداد انزعاجهم حين قام الرئيس بشار الأسد بعدة زيارات إلى الدول المعنية في العام 2009 لتحقيق هذا المشروع، ومنها أذربيجان وأرمينيا والنمسا وسلوفاكيا. وفي مقابلة مع صحيفة “لاريبوبليكا” الإيطالية في أيار/مايو 2009، قال الأسد عن هذا المشروع: “إن منطقتنا تشهد ولادة تحالف تفرضه المصالح المشتركة، وتتوافق ضمنه السياسات والمبادئ”، ولكن العدوان الدولي على سوريا في بداية العام 2011 لم يسمح لسوريا بتطبيق هذا المشروع.
وفي سياق التنافس الاستراتيجي الإقليمي أيضاً، عملت “إسرائيل”، وخصوصاً في ظل حكومات نتنياهو، على استعادة نفوذها في أفريقيا عند شواطئ البحر الأحمر ووسط أفريقيا. وقد نضجت الظروف لذلك بعد غياب ليبيا (القذافي) ومصر (حسني مبارك)، ولم تعد مصر قادرة على التأثير في القرن الأفريقي كما عهدناها خلال عقود مضت، فـأنشأت “إسرائيل” لنفسها قواعد عسكرية في أريتريا وإثيوبيا وكينيا ودول أخرى في وسط أفريقيا، كما استأجرت جزر “حاليب” و”فاطمة” و”سنتيان” و”ديميرا”، وأقامت قواعد عسكرية لها، إلى جانب قاعدة أخرى في ميناء “مصوع” عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر.
ومؤخراً، وصلت “إسرائيل” بواسطة الإمارات إلى جزيرة “سقطرى” المحتلة من قبل الأخيرة، لإقامة قاعدة عسكرية فيها. كما أقامت السعودية في آذار/مارس 2016 قاعدة عسكرية في جيبوتي، مقابل الموانئ اليمنية التي سيطر عليها “أنصار الله”. وفي نيسان/أبريل 2016، حصلت السعودية من مصر على جزيرتي تيران وصنافير، مع الإشارة إلى وجود مصلحة إسرائيلية في ذلك.
وكانت الإمارات قد سيطرت على موانئ يمنية ومواقع استراتيجية، من ضمنها جزيرة سقطرى والقاعدة العسكرية “ميون” الواقعة بين اليمن وجيبوتي، وحوَّلت ميناء “المخا” اليمني إلى قاعدة عسكرية أيضاً، إضافة إلى القاعدة العسكرية لأبو ظبي في “بربرة” عاصمة الصومال، وأخرى في أريتريا أُنشئت في العام 2015. وفي جيبوتي، استأجرت الإمارات منشأة “هاراموس” القريبة من قاعدة عسكرية أميركية.
مقابل كلّ هذه القوى الإقليمية، حصلت تركيا على اتفاق مع السودان، برئاسة عمر البشير آنذاك، في شهر كانون الأول/ديسمبر 2017، لإقامة قاعدة عسكرية على جزيرة “سواكن” في البحر الأحمر، حتى بلغت إيرادات جيبوتي، هذا البلد الصغير (830 ألف نسمة)، ما قيمته 160 مليون دولار سنوياً من هذه القواعد.
من الهامش إلى المركز
أما عن الرؤية الاستراتيجية الخاصة بـ”إسرائيل” في البحر الأحمر، فقد نشرت مجلة “معرخوت” العسكرية مقالاً مطولاً في عددها رقم 450، أي في آذار/مارس 2013، للباحثين الاستراتيجيين بروف أرنون سوفير المعروف بمواقفه اليمينية المتطرفة، والدكتور أنطون بركوفسكي من جامعة حيفا، تحت عنوان “البحر الأحمر والخليج الفارسي من الهامش إلى المركز”، ادعيا فيه “أن حوض البحر الأحمر وحوض الخليج الفارسي اللذين كانا على هامش الاستراتيجية الإسرائيلية يقتربان ليكونا في مركز الاهتمام الاستراتيجي لإسرائيل، بسبب أهميتها الاقتصادية والجيوسياسية”.
كُتب هذا المقال ونُشِر في ظروف اعتقد فيها الإسرائيليون وغيرهم بأنَّ سوريا ذاهبة إلى التقسيم إلى دويلات طائفية، تليها دول أخرى في المنطقة. أما حرية الملاحة البحرية والجوية لـ”إسرائيل” في حوض البحر الأحمر، فيتيح لها نفوذاً عسكرياً ومدنياً في أفريقيا وباقي دول الحوض، وما استيلاء “إسرائيل” على سفينة “كارين A” في العام 2002، وهي محملة بالأسلحة الإيرانية للمقاومة الفلسطينية، سوى تأكيد على أهمية ذلك.
وعلى الرغم من الأهميّة الدولية لحوض البحر الأحمر بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فإنَّها ترى نفسها مضطرة إلى تعزيز قوتها بالقرب من الهند والصين، وقد أمَّنت وجود حلفائها وأتباعها ونفوذهم في حوض البحر الأحمر، لكن ما ينقص ذلك هو ترتيب العلاقات بينهم، وخصوصاً بين “إسرائيل” ودول الخليج العربية التي تطبّع معها سراً، وتحتاج إلى التحول من السر إلى العلن، بل إلى العلاقات الرسمية، وذلك لكي تكون التحالفات ضد إيران رسمية وقانونية.
في ظلّ هذه التحالفات، وبرعاية أميركية، باتت الغواصات الإسرائيلية “دولفيناً” تسرح وتمرح في حوض البحر الأحمر، ومن هناك إلى بحر العرب، حتى تصل إلى شواطئ باكستان، وهي تحمل صواريخ متطورة، ومنها نووية، يبلغ مداها 1200-1500 كم، أي أنها تهدد الأمن الإيراني من البحر، كما تهدد أمن كل دولة عربية مناهضة للهيمنة الإسرائيلية والأميركية.
خلاصة:
أولاً: تقوم الاستراتيجية الإقليمية لـ”إسرائيل” في البحر الأحمر بالتنسيق مع الاستراتيجية الدولية للولايات المتحدة، باعتبارها حليفاً ورديفاً لها، وليست تابعاً، بالاختلاف عن الأنظمة العربية التي تعمل ضمن الاستراتيجية ذاتها، ولكن على أساس أنها تابع، وليست شريكاً أو حليفاً للولايات المتحدة.
وتتم الاستفادة من أموال العرب الزائدة في خزينتها لشراء الجزر والقواعد والموانئ، وإقامة القواعد العسكرية، ودفع تكاليف الحروب الأميركية، مقابل حمايتها من غضب الشعوب أو من الدول المناهضة للسياسة والهيمنة الأميركية والإسرائيلية.
ثانياً: تحقّق “إسرائيل” في استراتيجيتها هذه هدف الحركة الصهيونية الاستعماري في الهيمنة على خيرات الشرق الأوسط وضمان استمرارية الوجود الإسرائيلي، من خلال تفتيت العالم العربي والإسلامي، وديمومة الصراعات الداخلية فيه، وهي التي تنهك قواه، وتفقده مقدراته وخيرات شعوبه، وتبقيه متخلفاً وتابعاً وفاقداً لمقومات النهوض الحضاري من جديد.
وتتمثّل الاستراتيجية الإسرائيلية أيضاً في إقامة شبكات استراتيجية للبنية التحتية، من سكك حديدية وخطوط تجارة برية وأخرى بحرية، ومد أنابيب النفط والغاز من الشرق الأوسط، وبالتحديد من الخليج، على الشاطئ الشرقي للبحر الأحمر، إلى البحر المتوسط، فسكة الحديد وأوروبا، لتصبح الموانئ والشواطئ الإسرائيلية حلقة الوصل بين الشرق الأوسط وأوروبا، وتكون “إسرائيل” هي المستفيد مادياً والحامي لهذه الخطوط، فتصبح مصلحة الأنظمة المصدرة للغاز والنفط أو المستقبلة للبضاعة الأوروبية الاستهلاكية، وكذلك البضاعة الإسرائيلية، مرتبطة بالحفاظ على مصالح “إسرائيل” وقدرتها ووجودها الدائم، من دون أي حساب للحقوق الفلسطينية، حتى وصل الأمر ببنيامين نتنياهو إلى أن يصرح في 29 كانون الثاني/يناير 2012 “أن إقامة سكة الحديد بين إيلات وشاطئ البحر المتوسط تزيد من تعلق الصين والهند بنا”، ما يعني أن طموحه يصل إلى الدوائر الدولية، وليس الإقليمية فقط.
وهنا لا بدّ من التذكير بأنه مخطئ من يعتقد بأنَّ “كلّ ما تريده إسرائيل هو اعتراف العرب بوجودها أو شرعية وجودها”. صحيح أنّ مخطّطاتها أكبر من حجمها كدولة، ولكن حقيقة المشروع الصهيوني كمشروع استعماري دولي، والقناعة الدينية العقائدية لدى اليهود بأن لـ”إسرائيل” دوراً إلهياً موعوداً مقابل الأغيار في كلّ العالم، هو الذي يجعل أحلام حكامها أكبر من حجم دولتهم.
ثالثاً: يعتقد الكاتب البريطاني ديفيد هيرست بأن التحالفات الإسرائيلية مع دول الخليج العربية هي تحالفات في وجه النفوذ التركي، وليست ضد إيران، ولكن المراجعة الثاقبة لاستراتيجية “إسرائيل” وتركيا، برئاسة إردوغان، لا تشير إلى تناقضات عدائية بقدر كونها منافسات اقتصادية على سوق استهلاكي غني يتمنى كل طرف منتج أن يحظى به، ولكن مهما بلغت هذه المنافسة من حدة في التصريحات العلنية، فالحقائق تقول إن العلاقات التجارية بين “إسرائيل” وتركيا لم تتراجع في السنوات الأخيرة، رغم التوترات الظاهرة، بل حافظت على نموها.
أما حقيقة عضويّة تركيا في حلف شمال الأطلسي، فهي تؤكّد أنّها لا يمكن أن تكون في حالة حرب مع “إسرائيل”. وتؤكد التجربة العملية أن تركيا، مهما أبدت من تعاطف مع حماس، لم تقدم لها، ولن يُسمح بأن تقدم لها طلقة واحدة تستخدم ضد “إسرائيل”، ويبقى التهديد الأساس للأخيرة هو حزب الله من الشمال، والمقاومة الفلسطينية من الجنوب، وهما مدعومتان من إيران.
رابعاً: من خلال تحالفات “إسرائيل” الاستراتيجية مع دول حوض البحر الأحمر، يمكنها أن تحقق ما ردده شمعون بيرس لعقود طويلة “باجتماع المال العربي مع العقل اليهودي”، ليحقّق أكبر أحلام الحركة الصهيونية، وهو التفوق اليهودي الصهيوني الدائم، بتمويل عربي مع ديمومة التخلف العربي، فـ”إسرائيل” اليوم، في ظل أزمة اقتصادية خانقة، تحتاج إلى استثمارات عربية خليجية في التكنولوجيا والطب وعلم الفضاء ومجالات إنتاجية عديدة تخشى أن تتفوّق فيها إيران، فتفقد “إسرائيل” عوامل الهيمنة والوجود، لأنّ مقومات وجودها واستمراريته مرتبطان إلى حد كبير بتفوقها الذي يسمح لها بالهيمنة التامة، إضافةً إلى الرعاية الغربية التي تحمي تفوّقها.
خامساً: تطمح “إسرائيل” من خلال نفوذها في أفريقيا، وعلاقاتها المعلنة أو الخفيّة، الرسمية وغير الرسمية، مع أنظمة الخليج العربيّة، إضافةً إلى البحث عن أسواق لبضاعتها أو إنتاجها التكنولوجيّ، إلى أن تغيّر مواقف هذه الدول أو هذه الكتل في الجمعية العامة للأمم المتحدة وفي مجلس الأمن، لتقزيم الموقف الدولي المناهض للاحتلال الإسرائيليّ، والمؤيّد لحقّ الشعب الفلسطيني في وطنه وفي إقامة دولته المستقلة ذات السيادة.
الميادين نت