استراتيجيّة “إسرائيل” البحريّة شرقي البحر المتوسّط

 

منذ العام 1950، وضع بن غوريون نصب عينيه ضرورة سيطرة “إسرائيل” على البحرين المتوسط والأحمر وأشار إلى أنَّ اليهود لم يسيطروا يوماً على شواطئ هذين البحرين منذ “خروج موسى من مصر“.

اعتدنا أن نفسّر الخطين الأزرقين فوق النجمة السداسية وتحتها في علم “إسرائيل” بأنهما يرمزان إلى طموح الحركة الصهيونية بالسيطرة على الأراضي الواقعة بين النيل والفرات، ولم ينتبه أيّ منا إلى موقف بن غوريون من مفهوم السيطرة على البحرين، وما هما البحران المقصودان! إنهما البحر المتوسط والبحر الأحمر.

منذ العام 1950، وضع بن غوريون نصب عينيه ضرورة سيطرة “إسرائيل” على البحرين المتوسط والأحمر. وفي محاضرة ألقاها أمام خريجي الفوج الأول من ضباط البحرية الإسرائيلية في العام 1950، استعان بدراسة تاريخيَّة أشار فيها إلى أنَّ اليهود لم يسيطروا يوماً على شواطئ هذين البحرين منذ “خروج موسى من مصر” (وفق الأسطورة اليهودية)، مروراً بعصر الملك سليمان، وحتى مملكة “الحشمونائيم”، مُؤكداً أمام الخريجين الضباط أن أول سلطة سياسية في التاريخ اليهودي على هذين البحرين معاً، وعلى خطوط الملاحة البحرية فيهما، هي سلطة “إسرائيل” الحالية.

هذا ما نشرته ماتيا كام، نقلاً عن بن غوريون من دفتره “من البحر الأحمر إلى بحر الفلسطينيين”، وهذا ما رآه بن غوريون، تحقيقاً لوعد الله إلى موسى بقوله: “وليكن ملكك من البحر الأحمر حتى بحر الفلسطينيين”.

أكَّد بن غوريون في محاضرته أمام الضباط أيضاً أنَّ “حقيقة الاستيطان اليهودي على شواطئ هذين البحرين في العصر الحديث هي لحظة فارقة، ولها أهمية اقتصادية وسياسية واستراتيجية، فالبحر ليس صحراء مائية، ولكنه كنز مكتمل”.

وأضاف: “بل إن الغنى والازدهار الاقتصادي والثقافي الذي حقّقته مملكتا صور وصيدا قبل ثلاثة آلاف سنة، بسيطرتهما على البحار وخلق طرق التجارة الدولية، ما يزال تأثيره ماثلاً أمام العالم حتى يومنا هذا”، وبناء عليه، تقول ماتيا كام، فاكتشاف الغاز في المياه الإسرائيلية في البحر المتوسط في العام 2000 يؤكد رؤية بن غوريون لأهمية البحار الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية.

وبما أنّ الفكر الصهيوني يعبّر عن مشروع استعماريّ توسّعي، ولا ينحصر بالفكرة اليهوديّة، فقد نجد أن استراتيجية “إسرائيل” البحرية لا تقف عند السيطرة على البحرين، بل تمتد إلى بحار أخرى على مستوى الشرق الأوسط، وحتى مياه الخليج، ولكننا سنكتفي في هذه المقالة بتناول استراتيجية “إسرائيل” شرقي المتوسط.

استراتيجية “إسرائيل” شرقي المتوسط

في نيسان/أبريل 2017، أصدر مركز حيفا للبحوث السياسية والاستراتيجية البحرية دراسة مهمة تحت عنوان “نموذج ومنهجية الاستراتيجية البحرية الكلية لإسرائيل”، من تأليف الجنرال احتياط عودد غور لافي، تناول فيه بالتحليل الاستراتيجيات البحرية لعدد من دول العالم، منها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والبرتغال وكندا وبريطانيا وسنغافورة وفرنسا وهولندا، وبحث عن المشترك بين هذه الاستراتيجيات، ليصل إلى الاستراتيجية البحرية المناسبة لـ”إسرائيل”.

تنبع أهمية الاستراتيجيات البحرية من أهمية البحار في كلّ ما يتعلّق بخطوط التجارة الدولية والاقتصاد والطاقة بين دول العالم كافة، وتزداد أهميتها في عصرنا الراهن مع تطور التكنولوجيا والقدرة على اكتشاف كنوز بحرية لم يكن ممكناً في الماضي الوصول إليها.

ومع اكتشاف الغاز في البحر المتوسط، ازدادت أهمية الدراسات البحرية في الجامعات ومراكز الأبحاث الإسرائيلية، لما لها من أهمية اقتصادية وسياسية واستراتيجية ضمن مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، والإقليمي، وربما الدولي أيضاً.

وُضعت هذه الدراسة بناء على دراسات سابقة وأوراق عمل استراتيجية قدّمها في السابق كل من عمل في وضع الاستراتيجيات، مثل بروف عوزي أراد، ورون الدادي، وبروف شاؤول حوريف (رئيس طاقم الطاقة النووية في “إسرائيل” سابقاً ورئيس المركز حالياً)، والجنرال المتقاعد عامي أيلون، وآخرين.

وقد وصل المؤلف في تحليله ودراساته إلى أن هناك 3 نماذج من الاستراتيجيات: الأولى هي استراتيجية دفاعية لمنع وقوع الأخطار، والثانية هي استراتيجية إصلاحية، والثالثة هي استراتيجية المشاركة. ومن الدول التي تتبع “استراتيجية دفاعية” روسيا والصين، وتتمثل بالسيطرة على مساحات بحرية وتجفيفها، لخلق أمر واقع ومنع الآخرين من استخدام هذه المساحات.

أما الاتحاد الأوروبي، فيتبع “استراتيجية المشاركة”، من خلال تقوية الاقتصاد والأمن الأوروبيين بالاعتماد على البحر. وقد اشتقت دول أوروبية كثيرة استراتيجياتها البحرية من الاستراتيجية الأوروبية العامة. أما الولايات المتحدة، فهي تقود استراتيجية المشاركة، وتتبع ذلك في علاقتها مع أوروبا وحلف الناتو. وقد اتبعت أحياناً استراتيجية الإصلاح، كما فعلت بنجاح مع ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وحاولت ذلك مع العراق بعد العام 2003 وفشلت.

أما “إسرائيل” فهي تحتاج إلى استراتيجية بحرية عامة، يقول المؤلف، تتناسب مع وضعها وظروفها الجيو-استراتيجية والأمنية الحساسة في الشرق الأوسط، فالموقع الخاص بها بين البحار والقارات خلق لها وظيفة خاصة بين الأمم. ويعتبر أن موقع “إسرائيل” لم يتغير، ولكن المحيط الجيو-استراتيجي تغير كثيراً مع الأيام، الأمر الذي يلزمها بتعزيز أمنها القومي واقتصادها. من هنا، فالنموذج المناسب لـ”إسرائيل” هو نموذج “استراتيجية المشاركة”. وفي أوقات أخرى، قد تضطر إلى تبني استراتيجية دفاعية أيضاً، بمعنى خلق أمر واقع لا تسمح بتغييره.

تنبع أهمية الاستراتيجية البحرية لـ”إسرائيل” من كون 99% من التجارة الإسرائيلية مع العالم تجري في البحر، وأن خطوط الاتصال مع العالم ممدودة في أرض البحر، وأن 80% من المياه المستخدمة في البيوت والمصانع تأتي من مشاريع تحلية المياه، إضافةً إلى أنّ البحر المتوسط تحول إلى مصدر لإنتاج الغاز لـ”إسرائيل”، وأن أكثر من 50% من “سكانها” يعيشون على شواطئ البحر المتوسط.

إنّ اكتشاف الغاز شرقي البحر المتوسط، ومتغيّرات كثيرة إقليمية ودولية حصلت خلال العقدين الأخيرين، وخصوصاً العقد الأخير، جعلت من البحر المتوسّط بؤرة صراع وتوتر، وفي الوقت ذاته حلقة تواصل ومشاركة مع قوى أخرى، فالمصالح الإقليمية الاقتصادية وتناقضاتها وتلاقيها مع استراتيجيات دولية في الصراع بين الدول العظمى، يمكن في كل لحظة أن تشعل حرباً كبرى، فالحرب على سوريا، والأطماع التركية العثمانية، ودخول الأسطول العسكري الروسي إلى مياه المتوسط، مع طموح صيني وإيراني بالوصول إلى مياه المتوسط أيضاً، إضافة إلى الوجود الأميركي والفرنسي والغواصات الألمانية فيه، والعمل على مد أنابيب الغاز عبر المتوسط إلى أوروبا، وربطها بالغاز الإسرائيلي واليوناني والقبرصي، مع الأخذ بعين الاعتبار المصالح المصرية والإيطالية، ومخططات “إسرائيل” لربط الغاز الخليجي مع أنابيب البحر المتوسط عبر الموانئ الإسرائيلية، من الطبيعي أن ينتج تحالفات سياسية واقتصادية وأمنية على قاعدة “استراتيجية المشاركة” المذكورة أعلاه.

هذه المتغيّرات، يقول د. حاي إيتان كوهين يانروجيك، من معهد القدس للدراسات الأمنية والاستراتيجية، يوم الأول من نيسان/أبريل 2019، “يمكنها أن تغيّر موازين القوى الإقليمية، كما تعيد بلورة سياسة الطاقة الأوروبية، وتفتح الطريق لتشكّل تحالفات جديدة على قاعدة المصالح المشتركة، وقد تجد تركيا نفسها على مفترق طرق تاريخي، فهل تستمر وحدها ضد إسرائيل واليونان وقبرص ومصر أو أنها تقبل باستراتيجية المشاركة البحرية؟”.

بفضل هذه المتغيّرات، يقول د. يانروجيك، استطاعت “الدول الأربع، إسرائيل وقبرص واليونان ومصر، تشكيل هيئتين، الأولى تضم اليونان وقبرص ومصر، والأخرى تضم اليونان وقبرص وإسرائيل، للعمل المشترك ولصالح الأطراف الأربعة”.

تشترك هذه الدول أيضاً بشكل متفاوت في عدائها لسياسة رجب طيب إردوغان العثمانية. رغم ذلك، ما تزال أمام هذه الدول عقبات أخرى ليست سهلة للتقدم إلى الأمام في تحقيق استراتيجية المشاركة، فالحدود التركية اليونانية في بحر إيجه مصدر توتر ونزاع، والنشاط التركي في قبرص ما زال ينذر باندلاع النيران في أي لحظة.

أما “إسرائيل”، فلديها نزاع مع لبنان لترسيم الحدود البحرية، وترفض الاعتراف بالحقوق الفلسطينية في المياه الإقليمية أو الاقتصادية. كما أن التوتر التركي المصري بعد إسقاط حكم الإخوان المسلمين في مصر، وصعود عبد الفتاح السيسي إلى رئاسة الدولة، ما يزال مقلقاً لأي مستثمر في البحر المتوسط.

في المقابل، تحاول تركيا أن تعطّل مشاريع الرباعية في البحر المتوسط، من خلال عقد اتفاقيات مع المجلس الانتقالي في ليبيا، بقيادة السراج، وتقاسم مساحات من المياه الاقتصادية في البحر المتوسّط بين تركيا وليبيا، والتّهديد باستعادة حدود الدولة العثمانية بعد انتهاء فاعلية اتفاق لوزان بعد 100 عام من توقيعه، أي العام 2023، وهو تهديد واضح لليونان وقبرص. إضافةً إلى ذلك، تعمل تركيا لزيادة نفوذها على شواطئ البحر الأحمر، وخصوصاً الشاطئ الغربي، ضمن استراتيجية متكاملة بين البحرين المتوسط والأحمر.

قد يقول قائل إنّ هذه الرؤية هي تقدير موقف لمركز الأبحاث هذا أو ذاك، وليس للدولة. وفي هذا السياق، ينتقد بروف حوريف، رئيس مركز حيفا للأبحاث السياسية والاستراتيجية البحرية، على موقع “واي نت”، يوم 26/11/2019، حكومة “إسرائيل”، لعدم وجود استراتيجية بحرية لديها، ولكن متابعة الممارسة السياسية للحكومة، بما في ذلك نشاط الغواصات المتقدّمة التي اشترتها من ألمانيا، وتلك الّتي حصلت عليها من دون مقابل، وتستطيع حمل رؤوس نوويّة، ومجمل تطوّر سلاح البحريّة الذي يتطوّر بشكل مطرد، وتعاون “إسرائيل” مع الإمارات والسعودية، وسعيها للحصول على موطئ قدم على شواطئ البحر الأحمر وإقامة قواعد عسكرية هناك، في جزيرة سقطرى على سبيل المثال، تؤكد أن لها رؤية استراتيجية بحرية، وأن هذه الرؤية الاستراتيجية هي الرؤية الموجهة للسياسة الحكومية، والتي تتوافق مع رؤية بن غوريون الأساسية، حتى وإن لم تؤخذ كل توصيات المركز بعين الاعتبار، أو عدم اعتماد كوادره مستشارين لرئيس الحكومة. وقد لا يكون ذلك لسبب سوى أن بنيامين نتنياهو لا يحبّ المؤسسات، ويفضل أن يتخذ القرارات ويرسم الاستراتيجيات بنفسه أو مع محيطه الضيّق.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى