استعارة مكان
“أنا أكرر هاجسي كي أنجو منه في أحلامي”
“أجلس على قارعة الطريق،
بينما السائق يغير العجلة،
لا أحب المكان الذي جئت منه…
ولا أحب المكان الذاهب إليه…
لماذا، إذاً،
أراقب تغيير العجلة بفارغ الصبر؟!.”
كان برتولد بريخت، صاحب هذه القطعة، يرى ألمانيا (وطنه) في مأزق من النوع الذي يفقد فيه المواطن حسه بالزمان والمكان…وبالانتظار. وهو في القصيدة يجلس على خارطةٍ هي الطريق…أو قارعة الطريق. في منتصف الأشياء وانتظارها!!
في وصف حالتنا يمكن القول أننا نشبه بريخت:
لاالمكان الذي جئنا منه ولا الذاهبين إليه يعنينا بالقدر الذي يجب أن يعنينا. والسبب أن فاعلية أي شخص، ودوره وتأثيره تقارب الصفر. وإذا ما تحول مجتمع بكامله… بملايين متكاثرة، إلى منتظري قرارات بشأن حياتهم، ويرون هذه الحياة تسوء أكثر كلما صدرت قرارات أكثر…فإن نوعاً من اللامبالاة هي العلامة الفارقة لهذا المجتمع.
إن اللامبالاة هي الناتج الطبيعي أحياناً لليأس. ولكنها، في أسوأ مظاهرها، تعني ارتباك الخيارات والانقسام في داخل نفس الانسان إلى عدة أقسام.
منذ أمد بعيد، ثلاثين سنة على الأقل…الجمهور الذي تهمه السياسة، وأن أجيالاً لم تشترك، في حياتها للحظة واحدة في انفعال أو فعل سياسي. وأن عودتهم تحتاج إلى زمن طويل من الأمان.
هذا الجمهور المنتظر تغيير العجلة قد لا يستطيع تجاهل النظر إلى الوجوه التي ترسل إليه الوعود بالتغيير…فهي “كهلة” ولا توحي بأية حكمة، كما لم تستطع التسبب في ازدياد المنضمين إلى العمل السياسي، بل بانفضاضهم.
التذمر وحده لا يكفي لصناعة مظاهرة، أو لإنشاء مناطق محررة. فالتذمر متوفر ولا يحتاج إلى دعاية. ولا تحريض. ولكن عندما تكون عيارات التذمر مضبوطة على قدرة البشر على الاحتمال، تقلّ قدرة المعارضة على التحريض، بل وتحصد العكس: قد يخذلها الناس!
وهنا النوع الآخر من الانقسام: الوعد بالتغيير والرغبة فيه، بناء على شعارات أو خيارات، وبين الخوف من الفوضى واللااستقرار استناداً إلى تجارب… أقربها العراق أمس واليوم، وليبيا اليوم…وسورية النموذج الفادح.
ولترميم الانقسام يلجأ الناس، بصورة متزايدة إلى خطبة الجمعة. يستمعون، بعد أن تُسكّنَهم الصلوات، فيقال لهم، بتلك اللهجة التي لم تتغير منذ جامع المدينة: “إن الجهاد فرض عين” .
الانقسام هو ضد الدولة التي تشجع، والدولة التي تمنع!! والجالس على قارعة الطريق لا يعرف كيف يحب المكان الذي أتى منه، ولا المكان الذاهب إليه.
هكذا…يغدو المواطن في نفس اللحظة زرقاوياً، ورمادياً. داعشياً وأسدياً، ويتعمق الانقسام المحزن ليصبح نوعاً من الحيلة والضرورة. فينشأ جيل تربيته تغذي الانقسام، وتقول علناً شيئاً وتفعل عكسه سراً.
أحياناً أسمع أصواتاً متعددة لتساؤل واحد:
ما معنى هذا العناء كله؟ العسر كله؟ السعي الشقي كله؟ الحرب المجنونة كلها؟
لكنني كنت، بعد أن مضت بأعمارنا هذه الحرب، أرى الناس يقاومون الخوف المؤكد على مصيرهم، غير المعروف، بالنراجيل في الربوة وقاسيون، بالدخان المعسل ذي الروائح المبعثرة في قطن الهواء. يشربون شايهم على الفحم، وقال شاهد عيان أكثر من مرة: إنهم كانوا يضحكون ويرتكبون النكت البذيئة، لا يبالون برصاص بعيد، لم يزل بعيداً قليلاً.
اليوم، وقد أصبحت سورية مقسمة إلى جزر من الدماء، إلى محميات ومرتكبات لكل الجرائم. بعد أن أصبحت هذه السماء مسرح عمليات لكل أنواع الطائرات…الآن وأنت تصعد قاسيون بسيارتك، لو انفجر ألف دولاب، هناك…لما استطعت إصلاح أي شيء، لأنك لن تستطيع الوقوف. بصرف النظر عن “المكان الذي جئت منه، أو المكان الذاهب إليه” كما حدث ذات حرب كونية للمسرحي الألماني العظيم برتولد بريخت!