استقبلت دمشق بعد سقوط نظام الأسد ممثلين عن شركاتٍ استثمارية كثيرة، وقد التقيت ببعض ممثلي هذه الشركات في فندق الشام بجهود من صديق على علاقة بالاستثمار.
وكثر الحديث عن مشاريع أغلبها يدور في مخيّلة المتفائلين بمستقبل اقتصادي سوري واسع، وبعد مرور ثمانية اشهر على تسنّم الرئيس أحمد الشرع رئاسة البلاد لمرحلة انتقالية، حدّدها إعلانه الدستوري بخمس سنوات، لم يتغيّر شيء ملموس على الأرض يمكن الاتكاء عليه للقول إن مسيرة التنمية وإعادة الإعمار قد بدأت.
ولكيلا يتمّ الاصطياد بالماء العكر من قبل بعض غلاة التفاؤل، أقول بالفمّ الملآن ما نراه ضرورة، وهو إننا مع استقرار البلاد سياسياً وأمنيّاً بقيادة الرئيس الشرع، على قاعدة أن تكون جميع المكونات السورية السياسية منها والاجتماعية شريكة بصناعة المرحلة الانتقالية في البلاد، وشريكة في رسم ملامح الدولة السورية كدولة تعبّر عن حقوق المواطنة وواجباتها دون تفضيل بين مكونٍ سياسي وآخر.
الاستقرار السياسي ليس مجرد مقولة يتمّ الحديث عنها كيفما كان، بل هو واقع ملموس تشارك كل قوى ومكونات البلاد في تحقيقه بشكلٍ ملموس على المستويات الوطنية السياسي والاقتصادي والقانوني والاجتماعي والثقافي..
الاستقرار السياسي يعني أن يكون هناك توافق حقيقي على إعلان دستوري، ثم توافق على دستور للبلاد. وأن يكون هناك جيش واحد ووزارة داخلية هي المسؤولة عن الأمني الداخلي، أي لا سلاح غير سلاح الشرعية، والذي يحدّد الدستور أنه لحماية البلاد وحدودها وليس للتدخّل في شأنها السياسي.
هذا الاستقرار هو الأرض التي يقف عليها أي استثمار اقتصادي، فلا أحد يقامر أو يغامر بالاستثمار في بلاد لا تزال منقسمة على نفسها تحت ذرائع مختلفة.
لذلك نقول إن التفاهمات وتوقيع مذكراتها حول مشاريع يفترض أن تستثمر من خلالها شركات كبرى، مثل شركات التطوير العقاري العملاقة، التي تستهدف إشادة الأبراج والمطارات والطرق، لا تخرج عن كونها تفاهمات تخدم دعاوة سياسية للحكومة الانتقالية، ولا تمثّل برنامج عمل ملموس، لإن الاستثمارات الكبرى أو المتوسطة لا تزجّ بأموالها في مشاريع قد تتوقف بسبب قتالٍ هنا أو تفجيرات بغيضة هناك. سيما وإن ملف “قوات سوريا الديمقراطية” لا يزال يسبب إعاقة لوحدة البلاد واستقرارها، وإن المفاوضات بين الحكومة وهذه الميليشيا لم ينجم عنها سوى اتفاق آذار الذي بقي حبراً على ورق.
الاستقرار العام في البلاد يحتاج بالضرورة إلى انفتاح السلطة الحالية على كلّ القوى السياسية والاجتماعية في البلاد، هذا الانفتاح يحتاج إلى ثقة متبادلة بين كل هذه القوى، وهذا لن تتوفر بغير عقد مؤتمر وطني جامع لكل هذه، هذا المؤتمر، هو من سيرسم شكل الدولة السورية الجديدة القائمة على قاعدة إنها دولة مدنية ديمقراطية تعددية.
الاستقرار العام لا يتحقق وفق مبدأ الغلبة بالقوة، فنظام الأسد خير مثال على إن غلبته الأمنية القمعية لم تمنع سقوطه ورحيله، وإن القول بتجاهل المكونات السياسية أو الاجتماعية وغيرهما لن يخدم استقر ار البلاد، ولن يفتح الباب رغم وعود عربية أو إقليمية أو دولية أمام الاستثمارات وإعادة إعمار البلاد.
الاستقرار السياسي هو توظيف كل الإمكانات المتاحة اقتصادياً واجتماعياً من أجل إعادة بناء ما دمرّته حرب نظام الإبادة السدي ضد الشعب السوري. هذا التوظيف لا يمكن أن يكون منّة من أحدٍ، بل هو ضرورة حقيقية لانتشال سوريا من وضعها الكارثي المستمر حتى الآن.
فبعد مرور ثمانية أشهر لا تزال مسالة الطاقة الكهربائية وغير الكهربائية في حالة عجز عن توفير احتياجات المواطنين، واحتياجات نهوض صناعة حقيقية.
ولا يزال هناك فراغ على مستوى التطوير الزراعي بشقيه النباتي والحيواني، فليس لدى الحكومة الانتقالية أي برنامج عمل للتطوير الزراعي وفق الامكانات المتاحة، أو وفق برنامج إعادة بناء القطّاع الزراعي.
استقرار البلاد يأتي من تفاهمات ملموسة بين مكوناتها على قاعدة المواطنة، ولا أظن إن هناك من له مصلحة بغياب هذه التفاهمات غير ممن استفاد من حالة الفوضى السائدة أيام حكم نظام الإبادة، وأقصد بذلك تجّار الحروب والأزمات.
إن الذهاب بعيداً في بروباغندا إعلامية عن استثمارات لا تزال غير ملموسة هو بوابة إساءة للعهد الحديد بقيادة الرئيس الشرع، لإنها تعد وتبشّر بمستقبل قريب خلّاق، في وقت لا تزال فيه كل الأمور بحاجة إلى وضع برنامج ملموس للتغيير فيها.
نريد استقرار بلادنا سوريا، فالشعب السوري دفع ولا يزال أثماناً كبيرة من أجل نيل حريته وبناء دولته المدنية الديمقراطية. ومن يقول خلاف ذلك نعتقد إنه لم يقرأ ويفهم كيف ينظر العالم إلى سوريا الجديدة المطلوبة.
فهل سيوافق الرئيس أحمد الشرع على انعقاد مؤتمر وطني شامل ينهض بالاستقرار الحقيقي؟ أم إن الأمور لا تزال بعيدة عن الانتهاء من معالجة ملفات السويداء والساحل وشمال شرقي سوريا وملف الدمار والمخيمات التي لا يزال ساكنوها في انتظار غودو؟
أسئلة لا نفاق أو زيف فيها تنتظر إجابات شافية من حكومتنا الانتقالية العتيدة وآمالٍ يمكن أن تصير واقعاً عما قريب؟