في أيار الماضي، حصل تغيّر كبير في الجو الإقليمي تجاه الأزمة السورية، مع قرار الجامعة العربية بالموافقة على استئناف سوريا شغل مقعدها في منظمات وهيئات ومؤسسات الجامعة بعد اثني عشر عاماً من قرار بتجميد نشاطاتها هناك.
هذا القرار فيه تراجع عن سياسة انتهجتها دول عربية كانت لها مساهمات كبرى في دعم العمل المسلح المعارض من حيث التمويل والتسليح والتعبئة السياسية. وبعضها، مثل السعودية والإمارات والأردن، كانت موجودة في «غرفة الموك» ومقرها الأردن، بالتشارك مع الولايات المتحدة، وهي التي كانت تدير العمل المسلح السوري المعارض في المنطقة الممتدة من حمص حتى درعا. وحتى في أيار 2013، مع بدء تغيّر التوجه الأميركي نحو التحالف مع الأصولية الإخوانية الإسلامية، استطاعت السعودية، بالتحالف مع واشنطن، فرض «توسعة الائتلاف السوري المعارض» لإدخال عناصر محسوبين قبلياً عليها، مثل أحمد الجربا، وعناصر يساريين تعاونوا مع الرياض، مثل ميشال كيلو، وذلك لتحجيم نفوذ تركيا وقطر والإسلاميين في ذلك الجسم السوري المعارض، وذلك لتجييره لأجندات سعودية.
هذا التغيّر عند الرياض، وقبلها أبو ظبي وعمّان، مع ملاحظة تردّد مصري يمكن ربطه بانزياحات سعودية بعيداً عن واشنطن وعن تغيّر حسابات الأمير محمد بن سلمان. فولي العهد السعودي الذي – بالتساوق مع اندفاعة الرئيس الأميركي دونالد ترامب منذ دخوله البيت الأبيض عام 2017 لإلغاء الاتفاق النووي عام 2015 مع طهران – قد بدأ اندفاعة سعودية-إماراتية نحو إسرائيل كان تدشينها في نص «صفقة القرن» التي، حسب صحف أميركية منها «نيويورك تابمز»، قد كتب نصها في خريف 2017 بالتشارك بين ولي العهد السعودي مع صهر ترامب جاريد كوشنر. هذا الانزياح السعودي كانت ترجماته واضحة من خلال تنسيق، أثار غضب البيت الأبيض بعد الحرب الأوكرانية، قامت به الرياض مع موسكو بما يخص رفض زيادة إنتاج النفط في «أوبك +»، وفي اتفاق سعودي مع طهران تم عقده في العاصمة الصينية.
كانت الترجمة الثالثة لهذا الانزياح السعودي هو باتجاه تغيير سياسة السعودية تجاه الملف السوري. اللافت أن البنود، أو المحتويات الثلاثة، لهذا الانزياح السعودي، قد تمّت خلال خمسة عشر شهراً من بداية عالم ما بعد يوم 24 شباط 2022 مع بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، والذي يمثّل محاولة انقلابية روسية-صينية على عالم القطب الواحد الأميركي للعالم الذي بدأ في يوم 9 تشرين الثاني 1989 يوم سقوط جدار برلين والذي عنى وأعلن انتصار واشنطن على موسكو في الحرب الباردة البادئة عام 1947. في هذا الصدد، لا يمكن معرفة حدود هذا الانزياح السعودي بعيداً عن واشنطن ومسافته، ولكنه تطور دراماتيكي بالقياس إلى مسار العلاقة الثنائية التي بدأت في عام 1945من خلال لقاء «ترعة السويس» بين الرئيس الأميركي روزفلت والملك عبد العزيز، وأرست معادلة «النفط السعودي لأميركا مقابل حماية واشنطن لحكم الأسرة السعودية». وعلى الأرجح أن محمد بن سلمان لن يصل إلى ما وصل إليه عبد الناصر في مسافة الانزياح نحو موسكو عام 1955 بعيداً عن لندن وواشنطن، ولكنه انزياح ربما يتيح للرياض استقلالية إقليمية نسبية بعيداً عن واشنطن في ملفات مثل إيران واليمن وسوريا.
تريد الرياض، مع دول عربية أخرى منها الأردن، مطالب من دمشق منها عودة اللاجئين السوريين في الأردن ولبنان، ووقف عبور المخدرات من الأراضي السورية عبر الأردن باتجاه دول الخليج، وإخلاء قوات إيرانية أو موالية لطهران من مناطق قريبة من الحدود السورية-الأردنية. ومن النصوص والتصريحات، من الواضح أن هذه البنود الثلاثة هي جوهر وقلب «المبادرة العربية» نحو دمشق، والتي هي بالتساوق مع انزياح سعودي نحو موسكو وطهران، وليس عند العرب، أصحاب المبادرة، أوهام حول قدرتهم على حل الأزمة السورية، وهم لا يقولون بذلك ما داموا يدركون بأن الأقوياء الأربعة في الأزمة السورية هم بالترتيب: الأميركيون والروس والأتراك والإيرانيون، بل لهم أساساً المطالب المذكورة من دمشق.
بالتساوق مع ما حصل من تغيّر عربي تجاه دمشق الشهر الماضي، حصل حدث كبير في الشهر المذكور في دولة إقليمية فاعلة بالأزمة السوية هي تركيا، عندما فاز الرئيس التركي إردوغان بولاية رئاسية جديدة وفاز حزبه الإسلامي المتحالف مع حزب الحركة القومية الطوراني التوجه بالأكثرية البرلمانية.
يبدو أن معارضة واشنطن والاتحاد الأوروبي للتطبيع العربي مع دمشق وللخطط الروسية نحو مصالحة دمشق وأنقرة لا تأتي من رؤية للوضع السوري بل من رؤية أميركية جديدة للعالم
هذا سيعطي إردوغان مجالاً أقوى داخلياً في تنفيذ خططه المعلنة تجاه الشمال السوري، سواء من جهة وصل «المنطقة الأمنية» التي يتحدّث عنها إردوغان منذ الخريف الماضي بين إدلب وراس العين وجعلها متصلة جغرافياً عبر السيطرة العسكرية على مناطق تل رفعت ومنبج وعين العرب، أو من جهة خططه لضرب وتحجيم عسكري لـ«قوات سوريا الديموقراطية» (قسد). كما أن الخارج الروسي الذي يدخل في تحالف استراتيجي مع تركيا يشمل أنابيب غاز روسية نحو تركيا لتوزيعه من هناك على أوروبا والعالم، يقدّر إردوغان بأنه سيغمض عينيه الروسيتين عند ذاك كما أغمضهما عام 2016 في جرابلس-الباب-اعزاز وفي عفرين 2018 وفي عام 2019 عند عملية الغزو العسكري التركي لمنطقة تل أبيض-رأس العين.
هذه الخطط عند إردوغان تشمل بعد السيطرة العسكرية على تلك المنطقة التي تشمل جغرافياً معظم الشمال السوري تصل إلى خطط لتوطين ملايين اللاجئين السوريين بتركيا في مساكن هناك بدأت، كما قال إردوغان بخطاب ليلة فوزه عملية، بناءها بتمويل من قطر التي كانت الدولة العربية الوحيدة المعترضة على الانفتاح نحو دمشق. هذا يعني أن خطط موسكو للمصالحة بين أنقرة ودمشق لن يكون طريقها ممهّداً في المدى المنظور في ظل رفض الرئيس التركي للشرط السوري المسبق بأن طريق المصالحة يبدأ بالانسحاب العسكري التركي من الأراضي السورية، ومن المؤكد أن هذه المصالحة لن تمشي في ظل خطة تركية لإقامة شمال قبرصي ثانٍ في الشمال السوري فيه إدارة تتبع وتخضع للأتراك.
منذ أشهر، سمع معارضون سوريون في واشنطن كلاماً من المبعوث الأميركي السابق لسوريا جويل ريبورن، بأن «واشنطن تراهن على اصطدام قطار الجهد الروسي لمصالحة دمشق وأنقرة بقطار التطبيع العربي مع دمشق». وبالتأكيد، فإن دمشق لن تقبل، بعد أن تقوّت أوراقها بعد المصالحة العربية معها، بخطط إردوغان نحو الشمال السوري، ولن تصالحه في ظل بقاء القوات التركية على الأراضي السورية، وهذه شروط رسمية سورية معلنة.
هنا يبدو أن معارضة واشنطن والاتحاد الأوروبي للتطبيع العربي مع دمشق وللخطط الروسية نحو مصالحة دمشق وأنقرة لا تأتي من رؤية للوضع السوري بل من رؤية أميركية جديدة للعالم في عالم ما بعد الحرب الأوكرانية، الذي أفرز معسكراً صينياً-روسياً-إيرانياً في مواجهة معسكر حلف الأطلسي-اليابان-كوريا الجنوبية-أستراليا مع معسكر حياد تنزاح نحوه الهند وجنوب أفريقيا وربما السعودية والبرازيل، وتتلمّس خطاها نحوه. حيث ترى واشنطن أن سوريا ميدان مجابهة بين هذين المعسكرين مثلها مثل أوكرانيا وتايوان. والأميركيون، على ما يبدو، من خلال تشدّدهم الجديد تجاه المسألة السورية، لم يعودوا ينظرون في عالم ما بعد 24 شباط 2022 إلى ما يجري في سوريا كما كانوا ينظرون قبل هذا اليوم.
السؤال الراهن هو: إلى أين سيقود كل ذلك؟
صحيفة الأخبار اللبنانية