استقلال الجامعات وتعزيز التعليم العالي العربي
تكمن المشكلة التي تواجه الجامعات العربية في الألفية الثالثة في ضرورة صياغة نموذج تعليمي يحقّق معايير متعدّدة مثل الجودة، والمواءمة، والإتاحة، والتمايز العلمي، والاستدامة المالية، في ظلّ زيادة كبيرة في أعداد الطلّاب، وفي إطار مناخٍ تعليميّ جديد، يتّسم بتغيّرات غير مسبوقة. وهنا يكون من الضروري مراجعة التوجّهات التنمويّة للجامعات وخططها الاستراتيجية في مجالات التعليم والبحث العلمي، والدور المجتمعي، سعياً إلى تعزيز قدراتها في العصر المعرفي في الألفية الثالثة.
من بين القضايا المحورية في هذا المجال، ثمّة الاستقلال الجامعي والحرّيات الأكاديمية. إذ يُعدّ “استقلال الجامعات” توجّهاً استراتيجيّاً اتّفقت عليه معظم دول العالم، النامية والمتقدّمة على حدّ سواء – أياً كانت طبيعة أنظمتها التعليميّة واختياراتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية –، ومعياراً مؤثّراً في جودة أداء مؤسّسات التعليم العالي وفي تعزيز قدراتها الإبداعية وتأكيد دورها البحثي وتعظيم مساهمتها المجتمعية. وعلى الرغم من القبول بمبدأ الاستقلال الجامعي على المستوى العالمي، فإنّه يعاني من عدم وضوح في المفهوم، ومن قصور في آليات التطبيق، فضلاً عن ضرورة تحديد مدى ارتباطه بمفهوم “الحرّية الأكاديمية”، وما تُمثّله من مطلب ضروري لتعزيز القدرات ودعم الإبداع الفكري والابتكار العلمي. ومن هنا، فإنّه يتعيّن وضع تصوّر متكامل ومتّسق لمفهوم استقلال الجامعات في إطار التوجّه العام للحرّيات الأكاديمية، بهدف إثراء الحوار المجتمعي الراهن الرامي إلى تحديث الجامعات العربية في ظلّ المناخ التعليمي الجديد والعصر المعرفي في الألفية الثالثة.
كانت بداية طرح مفهوم الحرّيات الأكاديمية واستقلال المجتمع الأكاديمي في إعلان الجمعية الأميركية لأساتذة الجامعات خلال الحقبة الثانية من القرن العشرين، الذي أكّد على “حرّية البحث والنشر للعاملين بالتدريس في الجامعات، ورفض القيود المفروضة من المؤسّسات الدينية وغيرها، والحقّ في حرّية النقاش في المحاضرات في ما يتعلّق بموضوعات الدراسة والبحث”. وقد أقرّت منظّمة اليونسكو – بالتعاون مع منظّمة العمل الدولية – التوجّه نحو” تمتّع مهنة التدريس الجامعي بالحرّية الأكاديمية” في عام 1974.
كما مثّل “العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية” – الذي اعتمدته الجمعية العامّة للأمم المتّحدة في عام 1974 – إضافة رئيسية على مستوى النفاذ إلى (أو إتاحة) التعليم العالي من حيث “جعل التعليم العالي مُتاحاً للجميع على قدم المساواة، تبعاً للكفاءة بالوسائل المناسبة كافّة، ولاسيّما بالأخذ تدريجيّاً بمجّانية التعليم”. كما أضاف في أحد ملاحقه أنّ ” الحقّ بالتعليم لا يمكن التمتّع به إلّا إذا صحبته الحرّية الأكاديمية لأعضاء هيئة التدريس والعاملين والطلّاب”. كما أضاف “يتطلّب التمتّع بالحرّية الأكاديمية استقلال مؤسّسات التعليم العالي”. وقد طُرح في هذا المجال تعريف استقلال الجامعات بكونه ” درجة من حكم النفس لازمة لكي تتّخذ مؤسّسات التعليم العالي القرارات بفعالية بالنسبة إلى العمل الأكاديمي، ومعاييره، وإدارته، وما يرتبط به من أنشطة”. ومن هنا فقد أسّس “العهد الدولي” لقضيّة الحقّ في التعليم وارتباطه باستقلال الجامعات والحرّيات الأكاديمية.
من ناحية أخرى، مثّل “إعلان ليما” بشأن الحرّية الأكاديمية واستقلال مؤسّسات التعليم العالي في العام 1988، خطوة مهمّة في مسار الحرّيات الأكاديمية، حيث أكّد أنّ ” الحرّية الأكاديمية شرط مسبق لوظائف التعليم والبحث والإدارة والخدمات التي تُسند إلى الجامعات”، وأنّ ” كلّ عضو في المجتمع الأكاديمي يجب أن يتمتّع بوجه خاص بحرّية الفكر والضمير والتعبير والاجتماع والانضمام للجمعيات”؛ كما حدّد ألّا ” يُفصل أيّ عضو من المجتمع الأكاديمي من دون تحقيقٍ عادل، أمام هيئة من المجتمع الأكاديمي مُنتَخبة ديموقراطيّاً” (المادة الخامسة من الإعلان). وقد أضاف الإعلان كذلك أنّ ” جميع أعضاء المجتمع الأكاديمي – الذين يضطّلعون بمهامٍ تدريسيّة وبحثيّة – لهم الحقّ في القيام بأنشطتهم من دون تدخّل، رهناً بالمبادئ والمناهج العالمية للبحث والتدريس، وإقامة الاتّصالات بنظرائهم في العالم وضمان حرّيتهم في تنمية قدراتهم التعليمية والبحثية”. وبذلك رسّخ “إعلان ليما”– الذي تبنّاه عددٌ كبير من الأكاديميّين ومؤسّسات التعليم العالي – مفهوم الحرّية الأكاديمية واستقلال القرار الجامعي.
على المستوى الأفريقي، أكّد “إعلان كمبالا” بشأن الحرّية الفكرية والمسؤولية الاجتماعية في العام 1990، أنّ ” لكلّ أعضاء هيئات التدريس والبحث في المؤسّسات التعليمية الحقّ بشكل مباشر، ومن خلال ممثّليهم، المشاركة في تحديد البرامج الأكاديمية لمؤسّساتهم وفقاً لأعلى المقاييس التعليمية”.
وعلى المستوى العربي، كان لـ”إعلان عمّان للحرّيات الأكاديمية واستقلال مؤسّسات التعليم العالي والبحث العلمي”، الذي صدر في العام 2004 من مركز عمّان لدراسات حقوق الإنسان، أهمّية خاصّة من حيث تركيزه على السمات الخاصّة لمنظومة التعليم العالي العربية، حيث أفاد أنّه ” يتعيّن التصدّي لإخضاع التعليم العالي والبحث العلمي لغايات خارجة عن نطاق غايات التأهيل والتكوين والبحث العلمي، وفرض السلطات العمومية وصايتها المباشرة على الحياة الجامعية”، كما أكّد على ضرورة التزام السلطات العمومية باحترام استقلال المجتمع العلمي بمكوّناته الثلاثة من أساتذه وطلّاب وإداريّين. وفي تأكيده لمفهوم استقلال الجامعات، أضاف أنّ ” الحرّية الأكاديمية تشمل حقّ المجتمع الأكاديمي في إدارة نفسه بنفسه”، وحقّ أعضاء الهيئة الأكاديمية العربية في الانسياب عبر الدول العربية وفي التواصل مع المجتمع الأكاديمي على الصعيد العالمي.
بناءً على التحليل السابق، حدّدت مؤسّسة حرّية الفكر والتعبير في جمهورية مصر العربية أربعة مستويات بديلة للتعامل مع الحرّيات الأكاديمية واستقلال الجامعات على النحو التالي:
المستوى الأول: (المجال العامّ)
وهو المستوى المتعلّق بأنّ أعضاء هيئة التدريس والمجتمع الأكاديمي – بشكل عامّ – هُم مواطنون ينشغلون بالعمل المجتمعي العامّ والقضايا السياسية والثقافية. وهنا يتعيّن اعتبار أعضاء هيئة التدريس مواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات وفق الدستور أسوة بغيرهم رهناً بقوانين حقوق الإنسان والحرّيات الديموقراطية.
المستوى الثاني: (المجال العامّ داخل الجامعات)
يرتبط هذا المستوى بحقوق أعضاء هيئة التدريس والطلّاب في التنظيم سياسيّاً ونقابيّاً، والتعبير الحرّ عن الآراء والتوجّهات داخل مؤسّسات التعليم العالي.
المستوى الثالث: (استقلال الجامعات)
وهو المستوى الذي يتعلّق باستقلال الجامعات واتّباعها معايير الحَوْكَمة الرشيدة، وإشراك فئات المجتمع الأكاديمي في اتّخاذ القرار ووضع السياسات العامّة الجامعية وخطط تمويلها، وغير ذلك من الأمور الإدارية والمالية، بما في ذلك الإشراف على إدارة الهياكل الأكاديمية الجامعية واختيار النموذج التعليمي الأكثر ملاءمة للتوجّهات الاستراتيجية للجامعة، إذ توفّر الإدارة المؤسّسية المستقلّة المناخ الملائم لممارسة الحرّيات الأكاديمية.
المستوى الرابع: ( الحرّية الأكاديمية والفكرية)
وهو ما يتعلّق بالوظيفة المباشرة والأساسية للجامعات، والمرتبطة بخلق المعرفة وتطويرها ونشرها وحفظها، وهي بذلك تقتصر على جانب العمل الأكاديمي والبحثي والتدريسي، والتوجّه في الأساس لنشر الثقافة والتنوير وإحداث التغيير المجتمعي المرغوب.
في ضوء ما سبق، يتعيّن التأكيد على عدد من المبادئ الحاكمة أو الضامنة لاستقلال الجامعات والحرّيات الأكاديمية على النحو التالي:
إعادة النظر في الإطار المؤسّسي الحاكم لمنظومة التعليم العالي والبحث العلمي في الدول العربية من حيث المكوّنات، وتوزيع الأدوار، وعمليّة اتّخاذ القرار الأكاديمي والبحثي والخدمي المجتمعي، بما يسهم في دعم التوجّه العالمي نحو استقلال الجامعات.
التقليل من التوجّه السائد في العديد من الدول العربية الرامي إلى زيادة مركزية عملية صياغة اللوائح والبرامج والأُطر الأكاديمية، ووضع أساليب الحَوْكَمة، وتوحيد طرق التعليم والتعلّم والبحث والتطوير.
إطلاق حرّية الجامعات في وضع الرؤى الاستراتيجية والخطط المستقبلية في ما يخصّ اختيار نموذجها التعليمي والبحثي وآلية تمويله، بما يضمن تحقيق أهداف التميّز العلمي والتمايز عن أقرانها، والإسهام في إنتاج المعرفة ونشرها.
تأكيد استقلالية أعضاء هيئة التدريس والإدارة الأكاديمية في اختيار البرامج التعليمية والبحثية والخدمية المجتمعية وفق الرؤية الاستراتيجية لجامعاتهم، وما يتوافق عليه المجتمع لدور التعليم العالي والبحث العلمي في تحقيق التنمية البشرية.
السماح للجامعات – التي حقّقت متطلّبات الجودة والحَوْكَمة الرشيدة والتمايز والتميّز العلمي –بوضع اللوائح والمعايير الحاكمة لبعض المهامّ الأكاديمية مثل:
ترقيات أعضاء هيئة التدريس.
اختيار القيادات الجامعية.
وضع اللوائح الأكاديمية والتعليمية والبحثية.
الدور البحثي والتنويري والثقافي للجامعة.
تفعيل دور الهيئات العربية لضمان جودة التعليم واعتماده، وتأكيد دورها في ضمان جودة الجامعات العربية بالارتكاز على الأساليب الحديثة للاعتماد المؤسّسي الأكاديمي.
*أستاذ في جامعة القاهرة
وزير سابق للتعليم العالي والدولة للبحث العلمي – مصر
مجلة أفق ( تصدر عنمؤسسة الفكر العربي)