أزمة الشخصية المركزية المتنازعة مع شخصية مركزية أخرى بالغة التأثير تمثل محورا مهما وأساسيا ترتكز عليه رواية عبير العطار حيث تسير عملية السرد في خطين نفسيين متوازيين ومتقاطعين في الوقت ذاته.
تمثل أزمة الشخصية المركزية التي تتنازعها شخصية مركزية أخرى بالغة التأثير، محورا مهما وأساسيا من المحاور التي ترتكز عليها رواية “غواية روح”[1]، حيث تسير عملية السرد في خطين نفسيين متوازيين ومتقاطعين في الوقت ذاته، هما شخصية المسرود عنه الذي يتحول إلى سارد، وشخصية الأم، بما تمثله من رموز ودلالات، التي تمثل حبلا سريا وثقلا سرديا وخيطا بالغ التعقيد والتأثير على وجود الشخصية الرئيسة الأولى، كما تمثل الآخر/ الضد الذي تقوم العلاقة في الرواية على الصراع النفسي المتبادل بينهما.
وحيث يعتمد النص الروائي على فكرة التداعي، أو تيار الوعي القائم على تقنية الاسترجاع والبوح التي تسيطر على أغلب مساحات السرد لتتقاطع معها، كي تبرر وجود تلكما الشخصيتين في كل حالات اتفاقهما واختلافهما على حد السواء، والتيربما يتفقان فيها بداية من قيمة العنوان الدال والموحي، والمؤسس لتلك الحالة السردية المشبعة بدراما الواقع والمتخيل معا.. “غواية روح” والعلاقة المنبتة مع الواقع، ومحاولة التسرب للتشبث بالروح بديلا عن جسد أنهكته التجارب والأحوال؛ فالشخصية الأولى التي تضطلع بعملية السرد (مسرودا عنها وساردة) تتنقل بين ما يمثل حاضرها الآني، وماضيها المشبع بتلك الانكسارات التي عملت على تشتت تلك الروح وتشرذمها ومضيها في دروب التيه والمعاناة، حيث تمثل نقطة العودة من السجن، كنقطة انطلاقة لعملية السرد، الانتكاسة الحقيقية على مستوى الواقع، ملمحا بالغ التأثير وحاويا لكل التاريخ السري والمعلن للشخصية، والشخصية الأخرى التي يتشكل وجودها من خلالها، بتلك السمة المركبة:
“عدل جلسته مغطيا رأسه بالقبعة الجديدة، شغلته في البداية نظارته التي كسر ذراعها، لكنه تعود على ترميم أي شيء محطم، كمن أراد ترميم ذاته المتعبة من طول السجن. فلماذا تغلق كل الأبواب هكذا في وجهه من أول يوم للحرية؟.. إن ما يحلم به هو ركن بسيط يستعيد فيه توازنه”[2]
تبرز هنا إرادة ترميم الذات، كسمة قديمة، كمحاولة للتظهر والعودة من جديد لفعاليات حياة تبدو ظلالها القديمة من خلال توالي السرد والانتقالات من موقف إلى موقف مثير للذكرى والاجترار النفسي، مع تسلسل وتشابك العلاقات الشخصية برموز الواقع، مع استمرار حالة المناجاة عميقة الأثر في ذات السارد، في شكل عتاب/ جلد ذات/ تعذيب لأرواح آخرين في الوقت ذاته:
“أين أنت يا أمي يا صانعة عذاباتي؟ تركتني أستدعي ظلمك وليس حنانك المجفف الذي تذيبينه في كأس ألمي الدائم.. يا أمي لم لا تصدقين أن عقوق الآباء لأبنائهم هو أول مسمار يدق في نفس الروح”[3]
غموض والتباس
تلك العلاقة المضمرة أسبابها، والتي تتخفى في سمات شخصية الأم/ الجانب الآخر من الصراع النفسي، والتي تحاك من خلال الحكايات/ الاسترجاعات، وتقاطعها مع السرد، كي تستدعي ظلالا من شخصية الأب الهامشية- والتي تمثل نقيضا لحالة الأم- والتي ربما أتت ظلالها وذكراها أيضا من خلال عملية استدعاء ملامح الوجوه المشابهة من حول السارد، وهو يهيم في مساخات اغترابه؛ لتتداعى عبر وعيه المشوش الذي لا يحتفظ بالكثير من الذكريات المتعلقة مع الأب، نظرا لغيابه عن ساحة وعيه، ومن ثم انعدام أثره وتأثيره في حياة السارد وانعزاله بتلك السلبية هو الآخر، ليتماس معه في نقطة واحدة ووحيدة، وليكون ذلك التداعي مخرجا لما تعتمل به النفس، وما تعج به الذات من ترسبات/ آثار قد تبدو غير باهتة، برغم بهتان صورة الأب واختفائها/ إقصائها لصالح شخصية الأم/ الأنثى المركزية المتسلطة، إلا أن صوت الأب لايزال يدوي في الوعي بكلماته:
“أغلق عينيه ليتذكر صوت أبيه يقول: لا وقت للنوم على الأشخاص والأوقات والعلاقات.. الوقت بالنسبة لي خلق للاستثمار لا للإهدار.. تذكر ذلك جيدا يا صلاح”[4]
تلعب أهمية الزمن هنا دورا مهما في مقابل إبراز حالة الضياع التي تعاني منها شخصية “صلاح”، والتي تتمثل في إهدار السنوات العشر التي مرت عليه في السجن، والذي اختلفت أسبابه وعلائقه حتى تجلت من خلال تلك المسيرة المتوترة مع الأم على مدار السرد الروائي، والمتقلبة على جمر الالتفات للجذور التي ساهمت في صنع تلك المأساة، وهو ما ينعكس على صراع تلك الشخصية مع الواقع ومع تاريخها الذي ينعكس عليه تاركا ظلالا قاتمة..
كما يبدو وجود هذا الصراع في العمل كلما أوغل السرد وتمدد وانتقل للحكي عن شخصية أخرى من خلال وعي وصوت السارد الداخلي للنص، ومن ثم العودة إلى اللحظة الآنية/ الانتقالية التي تعيشها الشخصية الرئيسة، ثم الإلحاح على عقدة علاقته بالأم ظاهريا، ومن ثم معاودة مناجاتها كلما زاد الانعزال والتقوقع “كأنما يعود إلى رحمها” ثم انفلات الشخصية من أسر كل الشخصيات النسائية الأخرى التي تعترض سبيلها إلى شخصيات أخرى يتقاطع وجودها مع وجوده:
“كم أود أن أكون على أبعد نقطة من الأرض.. أسفاري ورحلاتي والمسافات التي قطعتها في حياتي.. لا تشابه تلك اللحظات حياتي! ما الذي فعلته بنفسي، لربما لا تعرفين يا أمي لماذا هربت من حضنك المتحجر سريعا إلى حضن سارة”[5]
عزلة النهايات
تلك العلاقة التي تبدأ بها الشخصية سلسلة علاقات بالمرأة/ الأنثى في صورها المتعددة، كحالات هروب/ تفريغ نفسي/ استيعاض لتغيير صورة الأنثى/ الأم ثم التمرد عليها، ما يستجلب التفاصيل وذكر العلل والمخارج والمبررات إلى حيث تستوي في بوتقة السرد الروائي، وتدخل في حبكتها إلا في بعض المواقف التي كان التزيد فيها واضحا (كمثلب من مثالب الرواية):
“لم يكترث صلاح بالخروج من البيت لشعوره بالراحة والانفراد بنفسه، ولم يهتم حين تحولت الغرفة في شقة هاني إلى سجن آخر بإرادته معللا لنفسه أن رفيقه مزدحم بمشاريعه التي لم تترك مجالا للتعارف عن قرب.. كان دائم التخطيط والترتيب لحياته في صمت باحثا عن أهله الذين هجروا المكان”[6]
تأتي هذه المرحلة من الرواية لتمثل دلالة جديدة على انتقال حس الوقوع في أسر السجن، وكأنها فلسفة لوجود الشخصية في سجن أكبر من سجن العقوبة المادية.. سجن معنوي تزداد وطأة العقوبة فيه، يكشف السرد/ الحكي فيه عن أسرار جديدة من سيرة ذاتية مفعمة بالأسى والاضطهاد، إلى جوار عدة أسباب لمكونات الشخصية من انفلات معياري وتطلع إلى جاه وشهرة زائفين، مع كل المثالب التي تميز وجود تلك الشخصية المركبة المتناقضة، والتي تتوازى في تناقضها مع شخصية الأم/ الآخر. حيث تتوالى الإخفاقات ويتوالى كسر نمط الحياة من خلال القفزات التي يحدثها السرد في تنقله من الحاضر إلى الماضي ثم العودة، كي يعمق من الدور السلبي/ القدري الذي تلعبه الأم في وعي ومقدرات الشخصية، وطبعها بالمزيد من خصالها في التخلي عن الآخرين – كتماثل بيني – حيث يكشف السرد الاسترجاعي والتقريري في صورة خطابات الشقيق الموجهة إلى الشخصية سواء في السجن المادي أو فترات البحث عن العائلة التي تناثرت وكادت تندثر، عن الوجه الشرير لتلك الأم/ الرمز، وحيث يصعد النص إلى أقصى منحنى ميلودراميته حيث يتجسد تورط الأم في حياكة كل المصائب التي وقعت للشخصية المستلبة، وأدت لسجنه والقضاء على مستقبله،ثم وقوعه في فخ تصفية الحسابات من منافسيه أيام استهتاره:
“أفاق على رنين هاتف الغرفة، من وهم قاعة المحكمة التي نصبها لها، وجعل من نفسه فيها قاضيا، شاهدا، حكما ومحكوما عليه، شعر بالتعب الشديد وأحس أن تلك المحكمة العقلية قد استنزفته”[7]
لتعود الرواية في نهايتها إلى نقطة بدايتها مع غياب شبح الأم المادي/ الموت، وإن بقيت في وعي مناجاته لها، وشبح من كان يبحث عنهم/ يبحثون عنه، إلى حالة عدم الاتزان/ التوافق التي دخلت بها الشخصية نفق علاقاتها القديمة المشوهة، ربما كي تتطهر، أو تتمادى في العزلة النفسية الأشد وطأة.
[1] غواية روح – رواية – عبير العطار – دار المفكر العربي – 2022
[2] الرواية ص18
[3] الرواية ص38
[4] الرواية ص40
[5] الرواية ص59
[6] الرواية ص101
[7] الرواية ص195
ميدل إيست أونلاين