شرفات

اسمعوا هذه الحكاية : جديّ كان لا يسمع، فماذا حصل !

اسمعوا هذه الحكاية : جديّ كان لا يسمع، فماذا حصل !… هل جربت أن تنعزل عن الأصوات؟!

قال لي شخص فقدَ سمعه، إن أتعس لحظة، مرّت معه، كانت عندما وضعوا سمّاعة طبية مزدوجة في أذنيه، وتدفقت الأصوات على رأسه، فخلقت جلبة مخيفة، وشوهت جمالية عالم الصمت الذي يعيش فيه، وبعد دقيقة واحدة ، رمى السماعة بعيداً، وعاد إلى الصمت !

جديّ كان يعيش عالم الصمت هذا !

جديّ كان لا يسمع، ولأنه شيخٌ ، فقد كان يسألنا : هل سمعتم الأذان؟ وكان ينبغي أن نجيبه بهز الرأس نفياً أو إيجاباً، فإذا عرف أن وقت الصلاة حل، يتيمّم ويصلي في مكانه لأنه عاجز، ثم يدعو الله بعبارات جميلة، أذكر منها : اللهم اشرح صدورنا بالمحبة وبصورة وجهك الجميل!

لم أسمعه أبدا يدعو الله أن يعيد السمع لأذنيه، وربما كان يحمد الله على هذه النعمة، وهذا يعني أنه مقتنعٌ أن الصمت الذي يعيش فيه هو الأفضل في قعدته الطويلة على كرسي عجزه، واستمرت هذه القعدة نحو سنتين إلى أن بلغ مئة سنة وسنة من العمر، ثم توفي!

وقعت الحرب، في حزيران عام 1967، وفي تلك الحرب، كانت الأخبار  أكثر الأشياء التي تشغلنا، إلى أن وصل الأمر إلى سقوط مدينة القنيطرة، فتحولت أجواء البيوت والحارات والشوارع إلى أحاديث لا تنتهي، وتحليلات ما أنزل الله بها من سلطان ، وكان بعض الناس يجمعون أشياءهم، ويتأهبون للسفر إلى حمص، وكان بعض سكان حمص يتأهبون للسفر إلى حماه ، وهكذا.

كانت هزيمة بكل معنى الكلمة، لأن معنويات العرب في ذلك الوقت، كانت تُبنى على أساس رمي إسرائيل في البحر، وكان المرحوم عبد الناصر، يتوعد إسرائيل بالهزيمة، إلى أن تحطمت الطائرات العربية عند الفجر في مطاراتها ، بعد أن خذله قادته، وانهارت الجيوش العربية مع انهيار جيش مصر، وفي صبيحة  الخامس من حزيران سجل العرب هزيمة كارثية!

كان يسكن في بيتنا نحو عشرين نسمة، يتابعون الأحداث المتتالية عن الحرب، وقد أدى ذلك إلى  انشغالهم عن العناية بجدي، وضاعت منه أوقات الصلاة، فصار يسأل: هل حل وقت الصلاة ؟ دون أن يجد إجابة، ثم راح يصلي عشر صلوات بدلا من خمس!

انتهت الحرب. ولم يسمع جدي بهزيمة حزيران، نعم لم يسمع بوقائع أخطر مرحلة مرت على الأمة العربية في القرن العشرين ، وكان يمضي الساعات على الكرسي، أو على فراشه يحدق في السقف!

ثم توفي بعد أقل من سنة.

مات مرتاحاً. لم يدخل في دائرة التحليل والتخمين والقيل والقال، ولذلك تذكرته هذه الأيام ، وتمنيت لو أني لا أسمع مايجري في هذا العالم، وكأن العالم كله قادم على هزيمة!

عالم الصمت الأسطوري مدهش، حتى لو افتقد الإنسان صوت الموسيقى، فأقنعت نفسي، أن للصمت موسيقى أجمل من الموسيقى التي سجلتها وكالة ناسا الأمريكية وقالت إنها صادرة عن كوكب المشتري الصامت، ولذلك قررت أن اتخذ قرارا على غاية الأهمية، فاسمعوه جيدا :

أنا لن أسمع أخبار النظام العربي الرسمي من المحيط إلى الخليج. لن أسمع نشرات الأخبار التي تتحدث عن العرب والتاريخ والجغرافيا والإرهاب والنفط والسجون والحصار والضغوط،  لن أسمع صخب المحللين السياسيين والعلميين والدينيين، حتى أنني لا أريد أن أعرف أخبار جديدة عن انقلاب (الجنرال كورونا).

أريد أن أعيش سنة واحدة مثل جدي، لأتعرف على موسيقى الصمت المدهشة، وأعدكم أنني لن أسأل عن تفاصيل الهزائم الجديدة لهذه الأمة!

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى