اعتذروا من أردوغان!

«لم يعد القدوم إلى تركيا بالسهولة نفسها»، يقول أبو يوسف، القيادي الأمني في «الدولة الإسلامية» ذو الأعوام السبعة والعشرين في مقابلة أجريت معه في مقعد خلفي لسيارة هوندا بيضاء متحركة في مدينة ريحانلي التركية. «أنا نفسي اضطررت للقدوم إلى هنا من خلال مهربين. لكن، كما ترى، ما زالت هناك طرق وأساليب للقيام بذلك.. معظم المقاتلين الذين انضموا إلينا مطلع الحرب أتوا من تركيا، كذلك أتت معداتنا وإمداداتنا». (واشنطن بوست ـ 12 آب 2014، في تحقيق بعنوان «في تركيا، حملة متأخرة على المقاتلين الإسلاميين»).

على مدى الأشهر الثلاثة الماضية، تحديداً بعد تمدد تنظيم «الدولة الإسلامية» وخرقه ما كان البعض يظنه خطوطاً حمراء في الإقليم، نُشر كمٌ كبير من المقالات والتحقيقات الميدانية في عدد من الصحف الغربية الكبرى، بغرض الإضاءة على «القاعديين الجدد»، الذين غيروا خرائط في الشرق الأوسط، ووعدوا بمزيد من «التغيير» على مستوى العالم.

التحقيق المذكور أجري في ريحانلي جنوب تركيا، حيث سبق أن وقع انفجاران ضخمان أوديا بحياة اثنين وخمسين شخصاً العام الماضي. ينقل فيه الكاتبان أنطوني فايولا وسعود ميخينيت، أثناء تجوالهما في الأسواق الشعبية للمدينة الصغيرة، أحاديث بعض السكان الذين باتوا يتأففون علناً من تحول بلدتهم إلى معبر لـ«الجهاديين» القادمين من كل اتجاه. يؤكدان وجود جرحى من مقاتلي «الدولة الإسلامية» و«النصرة» في مستشفيات ريحانلي، ويقتبسان كلاماً لسياسي تركي محلي يقول فيه إن بلاده «رحبت بكل من يريد مواجهة الأسد من غير تمييز، فيما (بعض) هؤلاء الآن يقتلون وينشرون المرض، ونحن ندفع الثمن».

يكاد المرء يشتبه بأن نائب الرئيس الأميركي جوزيف بايدن أوعز بإجراء التحقيق المذكور قبل أن يخطب في مجموعة من الأكاديميين في جامعة «هارفرد»، ويشير في سياق كلامه إلى أن «همّ حلفائه الوحيد كان إسقاط الرئيس السوري، ما دفعهم إلى تقديم مئات الملايين من الدولارات وعشرات آلاف الأطنان من الأسلحة إلى كل الذين يريدون مواجهته»، فكانت النتيجة أن «حصل مقاتلو «النصرة» و«القاعدة» على المساعدات».

إعتذر بايدن عن كلامه، كما هو معلوم، في اتصال هاتفي أجراه برئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان، بعدما استشاط الأخير غضباً واتهمه ضمناً بالتلفيق، مؤكداً أن «المقاتلين الأجانب لم يمروا عبر تركيا بأسلحتهم يوماً ليدخلوا سوريا».

ولعل بايدن استذكر، أثناء اعتذاره، مقالة موقعة باسم هيئة التحرير في صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية بعنوان «إجابة ضرورية على داعش» (24 آب 2014)، رأت فيها الصحيفة، في ما يشبه الرسالة المفتوحة إلى الإدارة الأميركية، أن مواجهة تنظيم «الدولة» تقتضي تنسيقاً مع دول الإقليم، تركيا ودول الخليج على وجه الخصوص، مؤكدة وجوب فرض رقابة على التبرعات المالية الآتية من قطر والكويت، وتدفق الأسلحة من السعودية، وعبور مقاتلي «الدولة الإسلامية» وأسلحتهم من تركيا.

لكن بايدن، تماماً كما نصحت الصحيفة، آثر إيلاء الأولوية لترتيب تحالف إقليمي ضد الإرهاب، على الدخول في مواجهة كلامية مع أركان التحالف المفترضين. هذا ما يفعله الذين يفقهون معنى السياسة وضرورات البراغماتية على أي حال، وقد التزم بايدن بهذه المقتضيات.

إعتذر، وفي ذهنه ربما، أن ما قاله ليس بجديد، بل هو منشور، حرفياً، في صحف على امتداد القارة الأوروبية أيضاً. سبق لـ«الغارديان» البريطانية قبل أسابيع، على سبيل المثال، أن نشرت مقالة (23 آب 2014) تنقل امتعاض مسؤولين أمنيين أوروبيين من عدم تعامل الأتراك بجدية مع قضية تسلل «الجهاديين» عبر حدودهم، ومن «غياب إرادة حقيقية لذلك» على مدى العام ونصف العام المنصرمين.

لقد تنبه بايدن، متأخراً، إلى صعوبة تمرير ما قاله في إطار الضوابط التي تفرضها الأصول الديبلوماسية، فسارع إلى تطويق آثار تصريحاته لطي الموضوع. لكنه فوجئ، على الأرجح، بحجم رد الفعل عليها، تحديداً ذاك الآتي من أنقرة. فالقضية ليست بالسر الذي يُراد لها أن تكونه. حتى الدوريات السياسية غير المعنية بإجراء تحقيقات ميدانية تشير إلى هذه المسائل كحقائق دامغة، في الغالب استناداً إلى معلومات يوردها مسؤولون غربيون، سياسيون أو أمنيون. فقبل أسبوع مثلاً، شرح ميشال كوبلوف في «فورين أفيرز» (1 تشرين الأول 2014) معلومة تكاد تصبح بديهية لفرط تكرارها، عن دور جهاز الاستخبارات التركية MIT المتصل بمكتب رئيس الحكومة مباشرة (خلافاً لأجهزة الجيش)، في تسهيل عمل الجماعات «الجهادية» حيناً وغض الطرف عنها أحياناً. كذلك فعل الكاتب البريطاني القدير، المختص بشؤون الشرق الأوسط، باتريك كوكبورن، في دورية «لندن ريفيو أوف بوكس» (21 آب 2014)، برغم إشارته إلى تقارير تفيد بأن تركيا ضيقت أخيراً على حركة «الجهاديين» عبر حدودها مع سوريا، بعدما كانت تلك الحدود الممتدة على طول 510 أميال، مشاعاً مفتوحاً لحركة هؤلاء.

من عليه أن يعتذر من أردوغان إذاً؟

نائب الرئيس الأميركي؟ الجسم الصحافي في الغرب، أو القسط الوافر منه على أقل تقدير؟ أم الشخصيات «الجهادية» الواردة تصريحاتها في تقارير وتحقيقات تُجرى في الجنوب التركي وتُنشر على الملأ ويقرأها الملايين؟

لقد تخطت القضية حدود الاعتذار، في أي اتجاه كان، ومنذ زمن.

فثمة من لم يعد يكترث للتصريحات ولا لحدودها أو لردود الفعل عليها، بعدما بات مصيره معلقاً على مواجهة الحقائق العارية بما تيسر.
أنظروا إلى كوباني النازفة سكانها. اسألوا نساءها المقاتلات اللواتي «تساوي الواحدة منهن مئة رجل» عن عنوان الاعتذار الحقيقي. ودعوا بيريفان ساسون التي فضلت الموت على السبي، ووثقت موقفها بالصوت والصورة، تدلكم عليه.

لو أن الأوان لم يفُت، لكان عنوانه هناك حتماً!

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى