اغتيال الأدمغة العربية
مرّ خبر اغتيال علماء الطاقة السوريين يوم 10 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي ،2014 مرور الكرام، فأعداد الضحايا زادت على أكثر من 150 ألف سوري، فمن يلتفت إلى موت خمسة علماء؟ هكذا استقبل الإعلام الخبر، من دون اكتراث يُذكر، بل إن البعض استمع إليه وهو يحتسي قهوة الصباح بكل خدر واسترخاء، في حين أن “إسرائيل” كانت هي المستنفرة، تنتظر كما في كل مرّة نتائج خططها الإرهابية، خصوصاً وإنها تختار اللحظة المناسبة للقيام بعملياتها، ففي إبان الحديث عن تنظيم “داعش” واحتلالها للموصل وتمدّدها لاحقاً باتجاه محافظتي صلاح الدين والأنبار واستيلائها على أجزاء من محافظتي كركوك وديالى، شنّت حرباً ضد غزّة استمرت 51 يوماً .
وفي غمرة الحديث عن المعارك في عين العرب وانتقال قوات من البيشمركة العراقية إلى هناك واستحكام الجدل حول الدور التركي وقيام قوات التحالف الدولي الجديد بقصف مناطق عديدة في سوريا والعراق، أقدمت حسبما يبدو على اغتيال العلماء السوريين، حيث تقول الأخبار إن سيارة كبيرة (حافلة) تعرّضت في منطقة برزة بدمشق التي هي تحت سيطرة الحكومة السورية إلى إطلاق نار كثيف أدّى إلى مصرع خمسة أشخاص .
واتّضح أنهم من علماء الطاقة النووية في سوريا، علماً بأنه لا توجد جهة تبنّت هذا الهجوم أو أعلنت مسؤوليتها بتنفيذ العملية، الأمر الذي يوجه أصبع الاتهام إلى “إسرائيل” الجهة المستفيدة من ذلك وذات السوابق الجنائية المعروفة، وكانت قد نفّذت أعمالاً مماثلة في سوريا وعدد من البلدان العربية، كما حصل في مصر والعراق، فضلاً عن إيران التي شهدت مصرع أكثر من عالم في هذا المجال، وكانت جميع هذه العمليات تتم بدقة متناهية وبطريقة محكمة ودقيقة وأسلوب يكاد يكون واحداً .
لم تنقطع عمليات اغتيال العلماء والأكاديميين العرب طوال العقود الماضية، وقد رصدت “إسرائيل” لتلك العمليات أجهزة ومعدّات ومتخصصين وأموالاً، لإدراكها أنها جزء من الحرب الدائمة والمفتوحة في الاستراتيجية “الإسرائيلية” المعلنة والمستترة، فضلاً عن كونها جزءاً من الحرب النفسية ضد الشعوب العربية، سواء بإضعاف البلدان العربية وجعل الشك يتسرّب إلى صفوفها، أو بهدف التخلص من العلماء أو إجبارهم على الهجرة . وخلال التحضير لبناء المفاعل النووي العراقي اكتشفت “إسرائيل” وجهاز الموساد مكان وزمان شحن المعدّات والأجهزة قبل إرسالها إلى العراق، وليس بمعزل عن تواطؤ فرنسي وعبر وكلائها، وقامت بتفجير المصنع النووي في مدينة لاسين سيرمير في فرنسا (على ساحل البحر المتوسط) في حزيران (يونيو) العام ،1979 كما اغتالت بعده ببضعة أشهر في (نيسان/ إبريل 1980) عالم الذرة المصري يحيى المشد الذي كان يعمل لدى العراق في حقل الطاقة النووية، وذلك عبر تسلّلها إلى شقته، والقيام باغتياله، مثلما اغتالت خبيراً آخر بعد وقت قصير من ذلك، وقامت بقصف المفاعل النووي العراقي مرتين بعد إعلان الحرب العراقية – الإيرانية (بين أيلول/ سبتمر وكانون الثاني/ 1980) ثم قامت بتدميره في حزيران (يونيو) 1981 .
وإذا أردنا العودة إلى ما قام به جهاز الموساد من عمليات إرهابية بحق خبراء وعلماء فإنها تصل إلى خبراء كنديين وألمان والأخيرين جاءوا إلى مصر في الستينات، مثلما لجأت إلى اختطاف هاينر كروغ وهو مدير مكتب “انترا”، إحدى الشركات التي كانت تزوّد مصر بقطع الصواريخ، ووجد بعد أيام مقتولاً في سيارته مثلما أصيبت سكرتيرته ولفغانغ بليتسر بالعمى، حينما انفجر طرد قتل خمسة من المصريين معها، وأرسلت تهديدات عديدة إلى العاملين في حقل إنشاء الصواريخ، مثلما اغتالت العالم الكندي جيرالد بول أمام باب منزله في بروكسل في 23/3/1990 وقيل إن تهمته العمل لصالح العراق، ونفذ الاغتيال وحدة “كيدرون” حسبما كشف عنه لاحقاً .
لقد سبق ل”إسرائيل” أن أثارت ضجة كبرى حول استخدام المفاعل النووي العراقي لإنتاج القنبلة النووية لضربها وتدميرها كما زعمت، وذلك منذ توقيع الاتفاق الفرنسي- العراقي العام 1975 لبناء مفاعلين نوويين، وقال موشي دايان بالحرف الواحد “إذا امتلك العرب أية كمية من الذرّة، فإن جنونهم لن يردّهم عن المغامرة”، واستعداداً لذلك أنشأت شعبتين: الأولى تابعة “لجيش الدفاع الإسرائيلي”، والأخرى تنتمي إلى الموساد (المخابرات الإسرائيلية) لغرض جمع المعلومات وتقصي الحقائق ومتابعة نشاط العلماء العرب المختصين بالذرّة في جميع أنحاء العالم، وهكذا ظلّت “إسرائيل” تسعى لإحباط أية محاولة لامتلاك العرب ناصية العلم والتكنولوجيا وعرقلة مساعيهم للحصول على الطاقة النووية، حتى وإن كانت للأغراض السلمية والتنموية والعلمية وتحت إشراف وكالة الطاقة الدولية، علماً بأن التنمية وامتلاك التكنولوجيا هي من حقوق الشعوب والأفراد، وهي تندرج ضمن “الحق في التنمية” الذي صدر إعلان من الأمم المتحدة في العام 1986 لتأكيده، كحق جماعي وفردي في الآن، بل ويدعو لاعتماده كأحد المعايير الدولية للتقدم .
ولعلّ “إسرائيل” تكاد تكون الدولة الوحيدة في العالم التي أضفت على الاغتيالات الطابع المؤسسي، وكانت رئيسة الوزراء “الإسرائيلي” غولدا مائير قد استحدثت جهازاً خاصاً بعمليات الاغتيال أطلقت عليه “المجموعة أكس” وألحقت به وحدة مختصة بالاغتيالات من جهاز “الموساد” . وخلال الغزو الأمريكي للعراق امتدت أخطبوطات “الموساد”، للمساهمة في تصفية المئات من العلماء والأكاديميين العراقيين . وإذا كان نجاح عمليات الاغتيال التي قامت وتقوم بها “الموساد” فلا يعني هذا براعته فحسب، بل اعتماده على وكلاء محليين يوفّرون الغطاء له . وكانت إيران قد أعلنت منذ العام 2007 عن اغتيال خمسة من كفاءاتها العلمية بظروف غامضة . وقد حمل بعض رجال “الموساد” صفة منتدبين من وكالة الاستخبارات الأمريكية، وحمل بعضهم جوازات سفر أمريكية، كما نشرت مجلة “فورين بوليسي” تقريراً لها في 13 يناير/ كانون الثاني العام 2012 .
وقد عرّضت “إسرائيل” بعض حلفائها الغربيين للحرج في اغتيالات قامت بها، وخصوصاً عند حمل المنفذين جوازات سفر تلك البلدان لتسيير حركتهم، وهو ما حصل في اغتيال محمود المبحوح في أحد فنادق دبي بالإمارات في 20/1/،2010 حيث تم استخدام جوازات سفر بريطانية وألمانية وإيرلندية وفرنسية . ومازالت تفاعلات قضية تسميم ياسر عرفات رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية قائمة والتحقيقات جارية، على الرغم من مرور ما يزيد على 10 سنوات على رحيله .
إن محاولات التصفية الجسدية “الإسرائيلية” للكفاءات العربية والقيادات الواعدة، هدفها استنزاف الكوادر العلمية، سواء بالقضاء عليها أو اغتيالها أو عبر عروض مغرية بالهجرة والإقامة خارج المنطقة العربية وعدم العمل لصالح دولها، لأنها تدرك أن ردم الفجوة بينها وبين العرب لن يتم إلاّ من خلال العلوم والتكنولوجيا وبواسطة علماء عرب أكفّاء حيث يمكن صنع التقدم التكنولوجي والعلمي، ولهذا السبب فإنها تسعى بجميع الوسائل إلى عدم إحداث التراكم المطلوب على هذا الصعيد .
ولعلّ الوجه الثاني للاستهداف “الإسرائيلي” للكفاءات العلمية، هو تشجيع البلدان الغربية على تقديم بعض التسهيلات إليهم للبقاء خارج المنطقة العربية، وضمن مشاريع لاستقطاب العقول والأدمغة المفكّرة، فضلاً عن حرية البحث العلمي، الأمر الذي تفيد منه هذه البلدان، بل إنها بحاجة إليه .
وتجدر الإشارة إلى أن الجزء الأكبر من العاملين في حقول العلوم والهندسة بجميع أشكالها في الولايات المتحدة هم من مواليد دول أخرى (خارجها) قسم كبير منهم من العرب، وهو الأمر الذي ينطبق على آلاف الكفاءات العلمية من أطباء وعلماء في بريطانيا، حيث ينحدرون من العديد من البلدان العربية وقسمهم الأكبر مولود فيها، ويشمل هذا الموضوع ألمانيا وفرنسا والعديد من البلدان الغربية .
ولعلّ جزءًا من ذلك يتحمّله العالم العربي، سواء ما يتعلق بالظروف المعيشية والاجتماعية وسوء توزيع الثروة، أو حالات عدم الاستقرار والاحتراب الداخلي والنزاعات المسلحة التي تشهدها بعض البلدان العربية، إضافة إلى شحّ حرية البحث العلمي وعدم توفّر الاستثمارات العلمية وضعف الحوافز العلمية والمادية، إضافة إلى البيروقراطية الإدارية والمراتبية والكثير من الضغوط النفسية التي يتعرّض لها العلماء العرب، الأمر الذي يجعل بعضهم يفكّر بالهجرة، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالطموح الشخصي حين يترافق مع سلبيات وإجراءات وظيفية معسّرة .
صحيفة الخليج الاماراتية