قبل انطلاق موسم العرض الرمضاني، ذكرنا بأنّه سيكون لـ «اغمض عينيك» (كتابة أحمد الملّا ولؤي النوري ـ سيناريو فادي المنفي ـ إخراج مؤمن الملّا) شأن خاص لدى المشاهد. على مدار 16 حلقة، اقتطع العمل السوري الخالص مساحته في وجدان المشاهد، وعبث بآلة الزمن بطريقة ناعمة، ليعيده إلى زمن آخر قبل طغيان الفوضى والانحدار إلى مستوى المقترحات المسفّة.
مسلسل يقدّم دراما عائلية تبتعد عن الابتذال ومطلب السوق بمنطقه الاستهلاكي والتجاري ولهاثه المحموم نحو العنف المبالغ فيه واجترار قصص الخيانات. قرر صنّاع العمل أن يكون الرهان على قصة موغلة في الإنسانية قوامها طفل يعاني من اضطراب طيف التوّحد، لكن بهدوء وبناء سلس يهدف إلى صناعة التشويق بعفوية ومن قلب القصة المتكئة على كل تلك الجوانب الإنسانية، بعيداً من الاستعراض أو الفبركة، والتفكير في المَشاهد التي يمكن أن تتحول إلى تريند خلال عرض العمل!
هكذا، وجد الجمهور نفسه أمام جرعة عاطفية مدروسة ومحصّنة بوجهة نظر علمية وبمتابعة اختصاصيين كانوا شركاء حقيقيين في صناعة المادة الدرامية التي تنطلق من حكاية الأم التي تعمل في شركة أدوية وتتورّط من دون علمها في قضيّة مخدّرات، وتسجن لمدة 15 عاماً تقضي منها 11 سنة خلف القضبان. تضطر إلى ترك ابنها جود الطفل المصاب بطيف التوحّد بمفرده في مواجهة هذا العالم الموحش، بعد رفض جده لوالدته الاعتناء به، وخصوصاً أنّ ابنته هربت مع حبيبها على إثر رفض الجدّ له، من دون أن تتوقّع يوماً بأنه سيتركها مع طفل مريض يحتاج السند والدعم وتقويته لمواجهة حملات التنمّر التي يتعرّض لها من المجتمع.
تقع هذه المهمة الشاقة على عاتق «مؤنس» (عبد المنعم عمايري) الخمسيني الذي وجد نفسه متصدياً للمهمة بعد فقدانه زوجته وابنه في حادث، وبقائه شبه وحيد. لذا سرعان ما نشأ رابط إنساني قوي بينه وبين الطفل بفضل خبرته الحياتية والمهنية وتوظفيها لمصلحة اجتراح صيغة تعامل سليمة معه.
وبالفعل تمكّن من تربيته وتذليل الصعاب التي واجهها، وخصوصاً أنّه يعاني من صعوبة في التواصل والكلام. تمرّر القصة 11 سنة لنعثر على جود وقد أصبح طالباً في هندسة المعلوماتية بينما ستكون موجعة تلك اللحظة التي تخرج الأم من السجن، فلا يتمكن الشاب من التعرّف إليها، لتبدأ رحلة جديدة تتمثل في محاولة إعادة الأمان له وتبديد المسافة مع وحيدها الذي يدير حياته بأسلوب غاية في الدقة!
تفرد الحكاية مساحة لشخصيّة جديدة يؤديها أحمد الأحمد هي «زوربا» صديق عمر مؤنس والرجل الذي صعد بأحلامه نحو رغبة التحرر المطلق من كلّ شيء إلى درجة راح يقبل على الحياة بنهم، فنال لقب «زوربا» من محيطه، وخصوصاً أنّه كان يعمل محامياً. لكنّ تفرد شخصيته جعله ينظر إلى القانون والعدل بطريقة مختلفة أدت إلى ابتعاده عن هذه المهنة، ليكرّس حياته للمغامرة والتجوال في الجبال والغابات. كأنه اختار أن يعيش حياته كما يحلو له متمرداً على المجتمع، ومعتزلاً معظم الناس إلا القلة ممن يتقبّلون مغايرته للسائد، ما جعله شبيهاً بجود المتوحّد بطريقة أو بأخرى، عدا أنه تعرّض بسبب سلوكه المتمرّد وتلقائيته المفرطة للرفض من المجتمع حتى من قبل عائلته الصغيرة المكونة من طليقته وابنه!
حقّق مسلسل اغمض عينيك شبه إجماع جماهيري ونقدي
إلى جانب الحكاية البسيطة وإصرار رهانها على خلق الجاذب من ناحية إنسانية بحت، شكّلت بعض العناصر الفنية مقومات إضافية لنجاح العمل، وخصوصاً الشارة الكناية عن فيلم كرتوني، إلى جانب التقاط جوانب مترفة بالحيوية حتى من الأحياء العشوائية الدمشقية بصيغة واقعية، شكّلت حالة جمالية إلى جانب العناية الصريحة بالتشكيل البصري.
يؤخذ على الحكاية وقوف أحداثها في كثير من الأماكن من دون التصعيد اللازم، وقد ظهرت بعض الحوارات الضعيفة بين الشخصيات، التي لم تكن قادرة على تحريض الممثل ربما ومنحه المساحة الوافية ليكون في أكثر درجات التجسيد عفويةً.
لكن ربما يغفر للتجربة الأولى مثل هذه الهنّات العابرة، ليبقى المسلسل أحد الأعمال التي حققت شبه إجماع جماهيري ونقدي وقالت بقوّة بأنه ما زالت هناك فرصة أمام الاقتراح الحكائي الإنساني ويمكن له الحضور على المحطّات والمنافسة بقوة!
صحيفة الأخبار اللبنانية