“الأبيض لا يليق بكم” رسالة خالدة وبشر زائلون!
كانت التجارب مع المرض موضوعا لعدد غير قليل من الأعمال الأدبية، كتب روائيون وشعراء تجاربهم توثيقا للحظات الألم التي انتهت بالشفاء وتجاوز المحنة، أو تخليدا لذكرى مرورهم السريع بالحياة. فالشاعر “حلمي سالم” أصيب بجلطة دماغية عام 2005، فكتب ديوانه “مدائح جلطة الدماغ”، وبعد أن نجح في التغلب (مؤقتا) على سرطان الرئة كتب قصيدته الأخيرة “معجزة التنفس”.
ومن قبل حلمي سالم كتب آخرون مثل يوسف إدريس، الذي كتب عن تجربته مع عملية القلب المفتوح في كتابه “الإرادة”، كذلك نعمات البحيري سجلت تجربتها مع السرطان والعلاج الكيميائي في “يوميات امرأة مشعة“، ومؤخرا كتب أيضا الدكتور طلعت شاهين عن تجربته في “البرتقالة والعقارب”. وقبلهم جميعا كتب صبحي الجيار عن تجربة مرضه الذي فرض عليه أن يبقى ساكنا مقيدا إلى فراشه في كتابه “ربع قرن من القيود”. وغيرها من النماذج شعرا ونثرا كتبها أصحابها عن تجاربهم الخاصة.
“الأبيض لا يليق بكم” رواية صدرت في أكثر من عشر طبعات، لم يكتبها صاحب تجربة المرض بنفسه، ولكن كتبها والده نيابة عنه، كتبها الصحافي والإعلامي اللبناني المغترب في إحدى الدول العربية، الدكتور طارق البكري عن تجربة ابنه “منير” مع المرض والمعاناة الشديدة التي عاشها طيلة سبعة أشهر في المستشفى. فعندما يصم الأطباء آذانهم عن أنين المرضى، وتتبلد مشاعرهم ساخرين من وجع وحزن قلوب الآباء والأمهات على أحبتهم، وعندما تتبدل طرقهم في التعامل مع المريض وأهله وفقا للمستشفى ما بين عام حكومي وخاص، وعندما يصم المسئولون والقضاة آذانهم، لا يسمعون شكاية المظلوم رغم ما يقدم من أدلة تشير إلى الجناة القتلة، تجيء الكتابة كحل وحيد تتيح سرد المظلمة، وعرض القضية بصورة كاملة، وذكر ما رفض الجميع سماعه في الوقت المناسب.
فالكاتب الأب الذي يعيش بقلب أم رهيف، كتب ما حدث ليصل صوته لمن رفض الاستماع إلى منير، حتى الشخصية الروائية “ليلى” تقرر الكتابة، كتابة رسالة بشهادتها الكاملة بعدما قاطعها القاضي، وعامل النظافة يكتب شهادته عندما سخر الجميع منه ورفضوا شهادته.
لست ضد القضاء بل مع القانون واحترامهم واجب والكتاب مناقشة هادئة من وجهة نظر أبوية؛ “الأب/ الكاتب”
ورغم أن الرواية حقيقية الأحداث، إلا أنها تتخذ الشكل المعتاد للرواية بما فيها من التخييل المتعلق باختراع شخصيات تجيء على ألسنتهم وقائع ما جرى لمنير، مثل شخصية ليلى وعامل النظافة، أي أن التخييل جاء في الشخوص وليس في الأحداث. تبدأ الرواية بـ “ليلى” الطبيبة “الجوالة” ابنة بائع الملابس القديمة الجوال، التي تطوعت لتعالج المرضى في أنحاء متفرقة من العالم، رفقة زميلها الطبيب الجراح “عاصم” الذي نشأ في مخيم للنازحين وأصيب بشظية في رجله اليمنى، وكلاهما عاشا الحروب وشاهدا الضحايا: “المساكين وحدهم فقط فاكهة الحرب وأشهى وقود لها”.
تتوالى الأحداث من خلال “ليلى” في استرجاع لما حدث مع شقيقها “منير”، وكيف أن القاضي رفض سماع شهادتها كاملة وقاطع حديثها، فما كان منها إلا أن قررت كتابة ما كانت تريد قوله في رسالة توجهها للقاضي “كانت موقنة بأن قلب القاضي أرق من جناح فراشة”، فكتبت: لك الحق كاملا فيما تقضي، ولا أزعم غير ذلك، لكنه أخي يا سيدي، أخي.. فتحوا بطنه دون أن يخبرونا، حقنوا عنقه بأدوية لا حصر لها.. أهانوه واحتقروه وأهملوه، صنعوا من جسده مسرحا للتجارب الفاشلة ولعبة لكل واهم بأنه أفضل طبيب في الدنيا وأكثر فهما من غيره….” ولكن كان “الحكم مبرم ولن يتغير” مهما قدموا من أدلة على خطأ أطباء لا يليق بهم اللون الأبيض، ولذلك كان إهداء الرواية موجها إلى “كل طبيب يليق به الأبيض، إلى كل من فقد حبيبا بخطأ طبي. رسالة بيضاء إلى معشر الأطباء ورجال القانون”. وهكذا قررت ليلى أن تغير مسار حياتها وتكون طبيبة يليق بها الأبيض فعلا وقولا.
من خلال ليلى، تتوالى بالتدريح قصة معاناة “منير” ما بين تشخيص خاطئ للمرض، وأدوية ضلت طريقها إلى مريض آخر لتستقر في عنق منير بينما هو راقد لا يستطيع دفع الضر عن نفسه.
في الرواية تفاصيل ما جرى للفتى الغض الذي لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، ومعاناة الأسرة من التعامل غير الإنساني من الأطباء الذين يشخصون المرض من غير الكشف على المريض أو الحضور إلى غرفته لمعاينته، وتعاليهم على وجع المريض، وسخريتهم من أحزان وقلق أبيه وأمه، ورفضهم السماح له بالسفر للعلاج بالخارج عندما أتيحت له الفرصة للسفر. وعدم البدء في التحقيق إلا بعد عامين من وفاته. ورغم ذلك نجدها / ليلى الأب/ المؤلف لا يوجه أصابع الاتهام للقضاة أو كل الأطباء، بل كان موضوعيا ليذكر النماذج الإنسانية أيضا حتى وإن كانت قليلة جدا.
تتحدث ليلى عن عامل النظافة المغترب الذي كتب شهادته عن أخيها تحت عنوان “الأبيض لا يليق بكم” بعدما رفض الأطباء الاستماع إليه. رأى عامل النظافة ما حدث لمنير وحاول أن يساعده قدر الإمكان حتى في وضعية الرقاد بعد أن أصابه الإهمال بقرحة الفراش. قلب عامل النظافة كان يليق به اللون الأبيض، أكثر ممن يعرف “أبقراط” يعتصره الألم لعذابات منير، يراقبه وهو يذوي أمامه يوما بعد يوم، صابرا على قسوة البشر إلى أن تحول من بطل رياضي يحمل الحزام الأسود في الكاراتيه .. أصبح هيكلا عظميا نظيفا من الشحم واللحم صلب المفاصل ثقيل الحركة
“الأبيض لا يليق بكم” رواية “معجونة بالدم، من أراد أن يعرف كيف تصاغ تقارير الأخطاء الطبية، وكيف يكذب الأطباء في المحاكم، وكيف يحكم القاضي بعبارة “لا يحق للمدعي اصطناع الأدلة” إذا كانت أدلة المدعي مرفوضة فلماذا تقبل أدلة الإدعاء الكاذبة؟ للأطباء الشرفاء فقط. لست ضد القضاء بل مع القانون واحترامهم واجب والكتاب مناقشة هادئة من وجهة نظر أبوية؛ “الأب/ الكاتب”.
رواية “الأبيض لا يليق بكم” هي سفر الآلام، سفر دخول منير إلى المستشفى وخروجه من الحياة، قال فيها والده ما رفض الآخرون سماعه، أكثر من عشر طبعات، تم توزيع أغلبها على أطباء المستشفى، ووزارة الصحة، والقضاة. أنات منير وشكواه، ورجاءات والدته، ورسالة طارق البكري رفض العشرات الاستماع إليها، فقرأها الملايين.
سيخلد “منير” رغم انتقاله إلى جوار ربه الرحيم، وسيعيش أزمنة عديدة، وسيفنى ظالموه.
طارق البكري
إعلامي وصحافي متخصص بالإعلام واللغة العربية. حائز على جائزة الملك عبدالله الثاني للابداع. رئيس لجنة تقييم جائزة الصحافة العربية لإعلام الطفل – دبي (2009). عضو لجنة تقويم جائزة قطر الدولية لأدب الطفل (2008 و2011). عضو لجنة مسابقة الريادة – مؤسسة الكويت للتقدم العلمي (2008 – 2009 – 2010). أستاذ مادة أدب الطفل والتعلم الذاتي والحضارة العربية الإسلامية في الجامعة العربية المفتوحة في الكويت. سكرتير تحرير مجلة التقدم العلمي (مؤسسة الكويت للتقدم العلمي) .سكرتير تحرير مجلة (ألو) الخاصة بالاتصالات والهواتف النقالة. مستشار تحرير مجلة “صدى كونا” ومجلة “أجيالنا” ومسؤول تحرير مجلة “أولاد وبنات” ومحرر ومسؤول تحرير في عدد من وسائل الإعلام منها: وكالة الأنباء الكويتية (كونا) وجريدة القبس (سكرتير تحرير)، وإذاعة الكويت، وإذاعة صوت الوطن اللبنانية. مديرتحرير مجلة براعم الإيمان.
صدر له عدد كبير من الكتب والدراسات الإعلامية والقصص الخاصة بالأطفال والكبار، وترجمت بعض أعماله للأطفال إلى الفرنسية والإنكليزية والروسية والكردية.
ميدل إيست أون لاين