الأب» لباسل الخطيب: مدوّنة الحرب السورية سينمائياً
لا يترك باسل الخطيب في أفلامه لحظة لالتقاط الأنفاس بين كادر وآخر، غير أنه في فيلم «الأب» (إنتاج المؤسسة العامة للسينما) يذهب نحو تمديد زمن وقوع الضحية في قبضة الجلاد، مستعيناً هذه المرة بسيناريو كتبه مع وضاح الخطيب لإبرام متتاليات بصرية باذخة بدأها المخرج السوري – الفلسطيني بافتتاحية بانورامية تطل على مكان الحدث، متابعاً استعراض الغابة كمسرح لإعادة تمثيل الجريمة، الغابة بكامل أشجارها وصخورها وبيوتها المموهة بين جبال متباعدة ووديان سحيقة تكاد صرخة الضحية فيها لا تشكل سوى نأمة خافتة أمام وليمة الذئاب التي يطلعنا كل من المخرج والكاتب على تفاصيلها.
يجد «إبراهيم» (أيمن زيدان) نفسه في عراء كامل مع زوجته وفاء (روبين عيسى) وأبنائهما، بعد اجتياح فصائل من «الدولة الإسلامية» (داعش) لقريتهما الجبلية الوادعة؛ يمكن أن نلتقط هنا حوادث واقعية لم يسعَ الشريط الروائي الطويل إلى تناول حذافيرها، تاركاً المجال لقراءة المجزرة وفق ديكوباج متقن جعل منه الخطيب سديماً ملغزاً لعدسته، فعلى الرغم من التصوير في قلعة الحصن الأثرية، المكان الذي سجل العديد من المعارك الدموية في سنوات الحرب الست، إلا أن صاحب فيلم «مريم» ظلّ مصراً على الابتعاد عن الوثائقي والتسجيلي، ماضياً في كتابة الحكاية سينمائياً، ومن دون الرجوع إلى مصادر قد تشوّش على روايته التي قال إنه «استمدها من المأساة السورية».
هكذا يمضي رب الأسرة وبطل الفيلم في مواجهة غير عادلة مع القتلة، فجميع من معه تحولوا إلى رهائن في يد «أبو قتادة» (يحيى بيازي) القيادي في تنظيم «داعش»: الزوجة والأب والأم المسنان، بناته وأبناؤه وبنات جيرانه، كلهم سقطوا تحت رحمة أصحاب الأعلام السوداء، وذلك بعد شبه نجاحهم بالفرار من المستشفى الذي حوصروا فيه، بعد أن يقرر «الضابط» (علاء قاسم) خطة انسحاب مع اكتشافه بأن مقاتلي «داعش» قد شرعوا بحفر نفق تحت المستشفى لتفخيخه، ونسفه والقضاء على حاميته من جنود الجيش السوري ومَن معهم مِن عائلات هاربة التجأت إليه من القرى المجاورة.
مواجهة لا تترك أبعاداً بين الكاميرا والرصاصة، بين السواطير والسينما، فالضحية برغم فراستها ونبلها وترفعها تصير مثار تسليةٍ وتزجيةِ وقتٍ في يد مقاتلي «الدولة» إذ يقيمون محاكم شرعية وميدانية، ويحاسبون الناس حسب معرفتهم أو عدمها بعدد ركعات صلوات الأوقات الخمس. النساء للسبي أو للاغتصاب، والرجال يُعدمون صلباً على أعمدة الكهرباء، أو تُجزُّ أعناقهم أمام زوجاتهم وبناتهم، أما الأطفال فيخضعون لدورة مكثّفة تحت عنوان سريالي: «أشبال الخلافة» وصولاً إلى المشهد الأخير الذي سجله الخطيب هذه المرة بلقطات قريبة ومؤلمة، حين يوكل كل من زعيم التنظيم وأميره الشرعي (رامز عطا الله) مهمة تعليم هؤلاء «الأشبال» لـ «إبراهيم» معلّم القرية بعد خضوع هذا لما يسمى «دورة استتابة» إلا أن «مدرّس» القرية يرفض الامتثال لأوامر «مفتي التنظيم» مخاطباً تلامذته الصغار بما يمليه عليه ضميره المهني كمعلّمٍ لطالما زرع فيهم ثقافة التنوير وحب بلادهم لا ثقافة القتل والتجهيل.
بارقة أمل
مجابهة ينهيها مخرج فيلم «الأب» على غرار جمل موسيقية لافتة للفنان سمير كويفاتي بتغيير الطفل وجهة مسدّسه المرفوع نحو رأس معلّمه الخمسيني، رافضًا تنفيذ حكم «التنظيم» بأستاذه في المدرسة. نهاية رمزية تركت ولو بارقة أمل بجيل سيكبر وسيعرف طريقه برغم أنه أمسى أسير مناهج تكفيرية وتربية لانغماسيين صغار، ذنبهم الوحيد أن أجسامهم الغضة أصبحت اليوم مادةً للتفخيخ ومشاريع لانتحاريين مرتقبين في ساحات وشوارع المدن والبلدات السورية.
لا يكتفي مخرج الفيلم بهذه المواجهة مع واقع قاتم، بل يحيلنا إلى أجواء كابوسية ربما تقصدها الخطيب هذه المرة بجرعة عالية من مشاهد صقيعية ممزوجة بدماء الضحايا وبكائهم تحت وقع صليل السكاكين، مُمرّراً لقطات صادمة لسلوك الجماعات الإرهابية على الأرض السورية، وما آلت إليه حال عشرات العائلات التي فقدت بيوتها وأرزاقها، وقُتِل أبناؤها واغتصبت نساؤها أمام أنظار رجالهم.
وثيقة سينمائية لا شك أنها قاسية ومرعبة، لكنها تبدو بمثابة صرخات عمياء عن ضحايا حرب حفروا قبور من يحبون بأيديهم، لنرى ما فعلته آلة الإرهاب في أجساد الأبرياء والعزّل، لا سيما من خلال قصص فرعية سجلها صاحب فيلم «الأم» بروية وهدوء، محاولاً إعداد ما يشبه مدوّنة سينمائية عن أبشع طرق الاعتداء على الإنسان ومحاولة تحطيمه من الداخل وتدمير قناعاته، لتبرز سادية القاتل وولعه بالذبح والهتك، وتنفيذ أوامر الإعدام الميدانية بمعلّم رسم (محمد زرزور) ذنبه الوحيد أنه لا يعرف كيف يصلّي!