الأتراك الجدد: تأثير صعود الهوية الإسلامية في العلمانية التركية (جيني وايت)
جيني وايت*
عرض: سماح عبد الصبور**
Jenny White,Muslim Nationalism and the New Turks,(New York: Princeton University Press, 2013)
تشهد الساحة الإقليمية تصاعدا ملحوظا للدور التركي في المنطقة، حيث برزت تركيا كقوة إقليمية مؤثرة تتحرك بأدوات مختلفة للقوة من أجل زيادة النفوذ التركي تحت قيادة حزب يعلن هويته الإسلامية، "حزب العدالة والتنمية"، لحكم دولة علمانية كما يراها الأتراك. وقد أثار الداخل التركي العديد من التساؤلات في ظل صعود الإسلاميين في تركيا منذ انتخابات 2002. ويأتي كتاب جيني وايت - الرئيس السابق لجمعية الدراسات التركية وجمعية الأنثروبولوجيا الأمريكية- كمحاولة لدراسة المجتمع التركي من الداخل، وتأثير صعود الهوية الإسلامية داخل المجتمع التركي العلماني.
وقد اعتمدت الكاتبة على مقابلات لشباب من المجتمع التركي يمثلون أطيافا وهويات مختلفة ما بين ليبراليين، وعلمانيين، وإسلاميين، ويساريين، كما اعتمدت على ملاحظاتها الشخصية للمجتمع التركي. وقد اختارت مجلة "السياسة الخارجية" الأمريكية الشهيرة كتاب وايت على رأس أفضل الكتب لعام 2012 في دراسة قضايا الشرق الأوسط.
قيام الجمهورية الثالثة في تركيا:
قامت الجمهورية الثالثة في تركيا على إثر الانقلاب العسكري عام 1980، وشهدت تركيا بدخول الجمهورية الثالثة العديد من التغيرات التي أعادت رسم المشهد السياسي والاجتماعي، بل والاقتصادي في تركيا، فأصبحت أكثر انفتاحا في الجانب الاقتصادي. كما برز إلى الساحة السياسية التركية الأحزاب الإسلامية التي استطاعت إثبات ذاتها في الداخل التركي، وأصبحت أكثر انفتاحا على الآخر وطورت في أساليبها.
في حين اتجهت التيارات العلمانية في تركيا إلى أن تصبح أكثر انغلاقا، وأصبحت مفاهيمها عن الأمة في جانب المقدس، مما أثار التساؤلات حول تعريف ما هو المقدس، حيث أصبح بالنسبة للعلمانيين في تركيا أن الأمة قائمة على عنصر النقاء التركي، وعلى رابطة الدم، استنادا لمقولة أتاتورك حول كون بلاد الأناضول هي الأرض المقدسة الغارقة في دماء هؤلاء الذين يضحون من أجلها، وأصبحوا أقل انفتاحا على الغرب، وأكثر تقديسا للحدود الجغرافية القومية التركية.
صعود الإسلاميين في تركيا:
زادت قوة الإسلاميين في تركيا، وأصبحوا أكثر انفتاحا على الآخر، وطوروا من أساليبهم لخلق أشكال جديدة من التفاعل مع الآخر من خلال "الإسلام المدني العام" الذي يؤمن بالديمقراطية، رغم اختلافهم عن الليبراليين، كما قادوا حركات العدالة الاجتماعية، رغم اختلافهم أيضا مع اليساريين، وازداد دورهم في الحياة العامة التركية، وازدادت أنشطتهم الاقتصادية، فظهرت البنوك والمدارس الإسلامية، والحركات السياسية الإسلامية، وزادت أنشطتهم الإعلامية والثقافية داخل المجتمع التركي، وأصبحوا أكثر تعبيرا عن هويتهم الثقافية ورموزهم الدينية، وانتشرت الرموز الإسلامية في تركيا مثل الحجاب.
مع تزايد قوة الإسلاميين في تركيا على الساحة السياسية، وصل حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم عام 2002، وقدم الحزب نفسه، كونه حزبا إسلاميا متطورا ومنفتحا على الآخر، له رؤية عصرية لأهم القضايا الأمنية والمجتمعية التي تواجه تركيا، وتهم قطاعات عريضة داخل المجتمع التركي، وجاءوا بفهم واع لقضايا المرأة والأقليات، وقدموا أدوات جديدة في التعامل مع القضايا الشائكة في المجتمع التركي، خاصة قضايا الأقليات.
فقد تبنوا سياسة "الديمقراطية المفتوحة" في التعامل مع قضية الأكراد، واتخذوا خطوات ثقافية وسياسية لضمان مشاركة الأكراد، كما اتخذوا خطوات وإجراءات جادة اقتصاديا، وسياسيا، ومؤسسيا، وتشريعيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وقدموا رؤي إسلامية متطورة أكثر ليبرالية وانفتاحية. كما أعاد الحزب اكتشاف منطقة الشرق الأوسط كمنطقة ذات خصوصية في السياسة التركية في إطار العالم الإسلامي.
إعادة تعريف مفهوم الأمة:
وضع الإسلاميون في تركيا تعريفا بديلا لمفهوم الأمة السائد لدي العلمانيين، والقائم على النقاء العرقي والقومي التركي. وتمثل مفهوم الإسلاميين للأمة في العودة إلى الماضي العثماني التركي، حيث حولوا الاهتمام من المفهوم التقليدي القائم على رابطة الدم إلى مفهوم أكثر انفتاحا على الآخر. ولم يروا أي تعارض في أن يقود الإسلاميون دولة علمانية، وأصبح الأمر بالنسبة للجيل الناشئ أن الدين والهوية القومية أصبحا أمرا من الاختيار، وصورة من التعبيرات الشخصية. فقد أدت الهوية الإسلامية الصاعدة في المجتمع التركي إلى طمس الخط الفاصل بين العلماني والإسلامي. كما دعم الإسلاميون العولمة، والليبرالية السياسية، والانفتاح الاقتصادي، وقبول الآخر.
ألقت وايت الضوء على صراع الهويات داخل المجتمع التركي، في ظل صعود أصحاب الهوية الإسلامية، وتزايد أعدادهم، ورغبتهم في التعبير عن الرموز الإسلامية في المجال العام، وهو ما يناقض أسس الهوية العلمانية القائمة بالفعل في الدولة التركية منذ تأسيس تركيا الحديثة على يد كمال أتاتورك الذي تبني الأتراك أفكاره، وأصبح مؤيدوه من الكماليين هم غالبية المجتمع التركي. واتسم المجتمع التركي بالعديد من التناقضات. ففي إحصائية ذكرتها الكاتبة، فإن 38% من الذين يؤيدون الحكومة ذات الهوية الإسلامية في تركيا يصفون أنفسهم بأنهم "كماليون".
وتوصلت وايت بعد دراسة أبستمولوجيا الشباب التركي إلى سيادة الاتجاه المحافظ بين أوساط الشباب التركي، حيث إن مصدر التنشئة الأساسي هو العائلة. وفي هذا الإطار، تناولت ظاهرة "الهندسة الاجتماعية" من خلال التعليم، والإعلام، والضغوط الاجتماعية. وتوصلت الكاتبة إلى أن الشباب التركي متعدد الهوية، ويجمعون ما بين كونهم إسلاميين، وكماليين، ومحافظين، وعلمانيين، وينعكس ذلك على سلوكهم التصويتي.
الهوية الإسلامية وتهديد العلمانية التركية:
تناولت وايت المشاكل التي واجهها حزب العدالة والتنمية في تركيا، نتيجة انتمائه الإسلامي الذي رأته بعض الأوساط التركية بمثابة تهديد للعلمانية في تركيا، وواجه الحزب العديد من الاتهامات بعلاقات إقليمية من أجل البعد عن المبادئ الكمالية الحاكمة في تركيا. كما أشارت إلى مسألة الحجاب في تركيا كأحد الرموز الإسلامية التي ارتبطت بالهوية الإسلامية الصاعدة في تركيا، خاصة بعد أن تم إقرار الحق في الظهور بالحجاب لمسلمات تركيا في الأماكن العامة والجامعات. ورأت وايت في ذلك تهديدا لهوية الدولة التركية العلمانية، وتحويلها لهوية دولة أخري كإيران أو ماليزيا، وهو ما يتعارض مع كون تركيا دولة علمانية، مما يفترض إبعاد تلك الرموز ذات الدلالة الدينية عن المجال العام في تركيا.
تناول الكتاب تطور الهوية والقومية التركية، وإعادة تعريف مفهوم الأمة، ومعاني الإسلام والعلمانية التي شهدت تغيرات راديكالية في الآونة الأخيرة. كما تطرق الكتاب إلى ما يشهده المجتمع التركي من تحولات اجتماعية وثقافية، وكذا إلى الخطاب العام السائد في تركيا، والربط ما بين الأبستمولوجيا والسياسة التركية.
*الرئيس السابق لجمعية الدراسات التركية وجمعية الأنثروبولوجيا الأمريكية
**معيدة بقسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة
مجلة السياسة الدولية (تصدر عن مؤسسة الأهرام المصرية)