الأحزاب النائمة في سورية (6) والأخيرة الحركة السياسية الغائبة، والنشاط الخفي!
لابد من الاشارة إلى أن المقصود بعبارة ((الأحزاب النائمة )) التي كان كان يجري الحديث عنها خلال الحلقات التي مرت هو بالضبط ((الأحزاب التقليدية)) التي تشاركت في تحالف جبهوي، ثم مالبث أن توالدت إلى الصيغة التي نراها الآن .
وهناك فعليا مجموعة أسباب أدت إلى أزمة تاريخية لمجموع هذه الأحزاب وبرامجها السياسية في الصيغة التي طرحت فيها، وأول هذه الأسباب هو ظهور الفرق الكبير في الأداء والدور في مرحلتي ((الأحزاب خارج السلطة))، و ((الأحزاب نفسها عندما تكون داخل السلطة))، فقد أسس الاتكال على الأداء السياسي للسلطة القائمة على مدار أكثر من أربعين سنة إلى رخاوة في الجسد التنظيمي للأحزاب، وتحولها إلى مؤسسات غير خصبة على صعيد توليد حراك سياسي وفعالية خلاقة رغم جسامة الصراع وعظمة الأهداف المطروحة.
ثم، وهذه نقطة ثانية، إذا كانت صيغة التحالف تتطلب تماسكا جديا بين الحلفاء الحزبيين، فإن تراجع حدة النقد والصراع السياسي والفكري فيما بينها، جعل الهدف من التعددية شكليا، فبدت التعددية اسمية، وتراجعت الخصوصية، ولم يعد بإمكان الأجيال الفتية المتطلعة نحو دور فعلي في المجتمع الركون إلى هذا الأداء السياسي .
نتج عن ذلك ظواهر معروفة، أطرت آلاف الشباب السوريين، ورمت بالكثير منهم إلى السجون، نتيجة البحث عن بدائل سياسية حيوية أو نتيجة البحث عن تغيير خارج إطار المنظومات الحزبية القائمة التي لاتعبر عن طموحاتهم، فالتطلعات اليسارية لبعض الشباب أفرزت في وقتها ((السبعينات من القرن الماضي)) نشاطا إرهابيا تجسد في ((المنظمة الشيوعية العربية)) التي مالبثت أن تلاشت تحت وقع الملاحقات الأمنية الصارمة ، قابلها تطلعات يسارية أنتجت أنتجت الحلقات الماركسية التي شكلت ((رابطة العمل الشيوعي)) التي تحول إلى حزب بعد سنوات، ومع ذلك دفع أعضاؤها ثمنا كبيرا لبرنامجها السياسي الذي دعا إلى التغيير عبر إسقاط النظام وإنشاء بديل يتمايز عن الأحزاب الأخرى الموجودة في التحالف القائم .
ومثل هذه الحراك وصل إلى التيارات الناصرية، فظهرت جماعات ناصرية وقومية مالبثت أن تلاشت هي الأخرى بسبب الظروف نفسها ، وكذلك حصل في التيارات الدينية التي كان أفرز حزب الإخوان المسلمين من خلالها الطليعة المقاتلة التي قيل إنها خرجت عن منظومة قيادة الأخوان نفسها في أعمال العنف التي ارتكبتها خلال الصراع الدموي مع الإخوان المسلمين ..
النقطة الثالثة ، وهي هامة جدا. تتعلق بعدم وجود ناظم قانوني يتيح للحركة السياسية النشوء والتوالد على أرضية الاختلاف مع التحالف الجبهوي القائم، فلا أحد يعرف كيف يمكن لفكر سياسي ((معتدل)) أن ينشأ ويتشكل ويتبلور وفقا للقانون ، وهذا مادفع الحراك السياسي الطبيعي إلى نشاط ((غير شرعي / سري)) أنتج صداما اجتماعيا كبيرا في بعض مظاهره ..
فالنشاط السياسي السري غالبا ما يثير قلق الأجهزة الأمنية فتلاحقه، وبالتالي تكبته، فإذا هو يبرر لنفسه الخروج عن القانون، فيتحول من ظاهرة صحية اجتماعية /سياسية في البحث عن جديد إلى ظاهرة مرضية كثيرة الأخطار، وعرضة للمغامرة والشطط أو التطرف في الأفكار .
في ضوء هذه المعطيات ، كان المجتمع أمام مجموعة احتمالات تحيط بالحيوية السياسية فيه ، أولها : نأي الجيل الجديد عن السياسة ، حتى عن الأحزاب القائمة ((الشرعية بحكم الأمر اللواقع)) ، فهي مؤسسات رسمية جامدة، يتراجع عدد أعضاؤها بالانقسام والموت والاعتزال لأنها لاتمثل طموح الشباب والأجيال الجديدة ولا تلتف حولها الفئات الشعبية، وإذا جري التأطير فيها بطريقة شبه إجبارية، كما جرى فعليا، فإن هذا التأطير أثبت فشله عند الأزمات فأعداد كبيرة من المؤطرين في الأحزاب الموجودة في الجبهة كسرت ولاءها سريعا، وذهبت إلى الفوضى التي نشأت في البلاد مع الأزمات الكبرى ((1979/1980/1981/1982)) و ((2011)) ..
ثانيها : أن الجيل الجديد، تخوف من الثمن الذي سيدفعه فيما لو ذهب إلى التيارات الجديدة السرية، فنأى عنها حتى لو كان يتوافق مع برامجها، وظلت هذه التيارات عبارة عن مجموعات صغيرة لاتستطيع تعويض النزيف اليومي في كادرها، ناهيك عن عجزها عن تجديد بنيانها الفكري أصلا ، وهذا يعني أنها عجزت عن التأثير في الحراك السياسي ودفعه لخدمة المجتمع..
ثالثها : انفتاح مجتمعي كبير وغير مضبوط على نشاط الآخر الخارجي، الذي يمكن أن يستخدم كل الوسائل الكفيلة بالدخول إلى الحراك السياسي والتأثير فيه ، وهذا الموضوع على غاية الأهمية، ويحتاج إلى دراسة مفصلة وموثقة في المرحلة القادمة !
رابعها : هو آليات المعالجة القانونية والسياسية القاصرة عن استيعاب حراك سياسي وطني وتفعيله عند الشعور بـأهميتها، ففي عام 1979 تم تشكيل لجنة لتطوير الجبهة الوطنية برئاسة محمود الأيوبي وعضوية فايز اسماعيل ودانيال نعمة وغيرهما ، والتقت مع المثقفين والناشطين وأنصتت إلى مطالبهم، ثم إنها سريعا طوت ملفاتها ، وانكفأت عن المجتمع وحقيقة مايجري فيه ، وبدت كأنها جرعة تسكين سياسي أدت إلى المزيد من فقدان الثقة!
وفي مطلع الأفية الثانية سمح لناشطين ((شكلوا إعلان دمشق)) بحراك محدود توقف سريعا مع انكشاف تناقض جوهري مع السلطة القائمة التي أشارت إلى وجود تمويل خارجي فيه.
وفي عام 2011 ظهر قانون الأحزاب السوري ((المرسوم 100)) لأول مرة منذ أربعين سنة، ولم يكن قادرا على احتواء الكارثة الكبرى التي يعتقد الكثيرون أن واحدا من أهم أسبابها هو فقدان مثل هذا القانون والموات الحاصل في الحركة السياسية السورية ..
نشأت بعض الأحزاب بموجب هذا القانون، وعندما نعود إلى فعاليتها السياسية وعلاقتها بالحراك السياسي نسأل سريعا : هل هي وليدة حيوية اجتماعية طبيعية أم أنها شكل من أشكال العلاج الفوري لأزمات ((الربيع العربي)) التي تحولت إلى موجات من العنف الدامي مع تصاعد الصراع وظهور تشابكات خطيرة فيه ؟!
وهنا يطرح السؤال الخطير نفسه :
هل سيظل العمل السياسي مرتبطا بالعمل في ((الخفاء)) ، وإذا كان كذلك ماهي الآثار التي ستتركها هذه المأساة على الحياة الوطنية ومقدرة المجتمع على توليد قيادات سياسية وطنية فاعلة وقادرة على كبح أي مظاهر كتلك التي شهدناه في حرب السنوات الخمس؟
تبدو القضية، أكثر من كونها قضية قانونية واجتماعية ووطنية، إنها توحي بأنها مسألة ثقة بين الناس والسياسة، وهذا يعيدنا من جديد إلى المعطيات
التاريخية !