«الأخبار» في المخيّم: على أرض جباليا… ما يستحقّ الحياة

في الطريق إلى مخيّم جباليا شمالي قطاع غزة، تشقّ السيارات سحابةً من الغبار تخفي في أَتونها أجساد الذاهبين إلى المخيّم مع ساعات الصباح، مشياً على الأقدام، بعدما لم تُبقِ العمليات العسكرية المتكرّرة التي طاولت جباليا، طريقاً واحدة مرصوفة، إذ إن جيش الاحتلال هاجم المخيّم بأربع عمليات برّية: الأولى في نهاية عام 2023؛ والثانية استمرّت 18 يوماً في منتصف عام 2024؛ أمّا الثالثة، وهي الأكبر والأشدّ شراسة، فقد بدأت في مطلع تشرين الأول من عام 2024 وتواصلت على مدى 110 أيام، لغاية التوصّل إلى وقف إطلاق النار الأول في الـ19 من كانون الثاني 2025. وخلال العمليات الثلاث، لم تُبقِ العربات المفخّخة وجرّافات الـ«دي ناين» حجراً على آخر، في حين تعرّضت تلك المناطق لعمليات هدم مُمنهج، شاركت فيها عشرات البواجر التي تشغّلها شركات مقاولات إسرائيلية متعاونة مع جيش العدو، على مدار الساعة.
وإزاء ذلك، يبدو أن واقع الحال في مخيّم جباليا هو الأكثر تعقيداً في القطاع. يشير فادي العطاونة، وهو أحد الناشطين في المخيّم، إلى أن العدوّ تعمَّد طمس المعالم المركزية فيه، ويقول: «صرتَ تمشي وتسأل عن منطقة الترنس وشارع الهوجا ومركز مخيّم جباليا، لم يتبقَّ حجر على آخر، حتى المنازل المُهدّمة نُقل ركامها من مكانه، خلطت الحجارة بعضها ببعض. حتى مَن يتعرف إلى المربّع السكني الذي كان يعيش فيه، لا يجد ركام منزله».
صعدنا على تلّة مرتفعة من الركام، حيث تبدّى أمامنا مخيّم جباليا: أكوام متلاصقة من الركام والخراب، تفصل بينها أخاديد ترابية، هي عبارة عن طُرق شقّها الأهالي العائدون بشقّ الأنفس. وعلى هوامش تلك الطرق، يقضي الأهالي ساعات النهار لتنظيف بضعة أمتار تتيح لهم نصب خيمة. «لا مفرّ من العودة إلى المعسكر، المكان موحش ولا خدمات فيه، لكنّ العيش خارج المخيّم، حتى وإن كنّا داخل مدينة غزة أو في القطاع، غربة لا نطيقها»، يقول محمود قداس.
ويتابع في حديثه إلى «الأخبار»: «عندما تقرّر العودة إلى مخيّم جباليا، فيجب عليك الاستعداد ذهنياً لأن تعيش حياةً بدائية شاقّة، تمشي بضعة كيلومترات للحصول على المياه، وتحمله مشياً على الأقدام إلى الخيمة أو بقايا البيت. تقطع مسافة طويلة لشراء المواد التموينية، فأقرب سوبر ماركت موجودة في شارع الجلاء، الذي يبعد مسافة ثلاثة كيلومترات. أمّا الأصعب، فهو الحاجة إلى العلاج والرعاية الطارئة، ذلك أنه لا مستشفيات تعمل في شمال القطاع».
خلال العمليات العسكرية التي استهدفت مناطق شمال قطاع غزة، دمَّر الاحتلال كامل المنظومة الطبية، وأَخرج ثلاثة مستشفيات حكومية وخاصة من الخدمة، هي: «الأندونيسي» و«العودة» في حي تل الزعتر، ومستشفى بيت حانون. وفي حين تقع تلك المؤسسات الثلاث في مناطق الخط الأصفر، يؤكّد فارس عفانة، مدير الخدمات الطبية في شمال غزة، أنه «لا معلومات متوفّرة عن حالتها، بعدما عاث جيش الاحتلال فيها فساداً، وقام بتخريب محتوياتها، كما تعرّضت الأجهزة الطبية للنهب، والمستشفيات الثلاثة خارجة عن الخدمة حالياً». «أمّا مجمع كمال عدوان الطبّي، فهو قريب جدّاً من الخط الأصفر، ولا يزال الاقتراب منه خطيراً ويهدّد سلامة الأطباء والمرضى، ما يعني أنه هو الآخر خارج الخدمة»، بحسب ما يضيف عفانة في حديثه إلى «الأخبار».
لكن، أن تبقى مناطق شمال قطاع غزة التي عاد إليها الآلاف أخيراً، من دون خدمات طبية، فذلك يعني انعدام فرصة الاستقرار والحياة. وفقاً لمحمود الكحلوت، وهو أحد سكان المخيّم، «يريد الاحتلال أن تبقى هذه المناطق منخفضة الكثافة السكانية، وأن يعدم أيّ فرصة للاستقرار. لكنّ عشرات الآلاف عادوا، وسكنوا في ما تبقّى من منازلهم، رغم إطلاق النار المستمرّ والقصف الذي لا يتوقّف على طول المناطق المحاذية للخطّ الأصفر. فهناك الكثير من الأهالي الذين يفضّلون عذاب مخيّم جباليا على نعيم وراحة أيّ منطقة في قطاع غزة أو في العالم. المسألة لها علاقة بالانتماء إلى المكان والعلاقة الروحية معه».
وفي مقابل مساعي الاحتلال لوأد الحياة في جباليا، افتُتحت، صباح أمس، أول نقطة طبية في المخيّم برعاية مؤسسة «إيران همدل» التي تُوصل تبرّعات الشعب الإيراني إلى غزة. يقول غسان معين، وهو منسّق مشاريع المؤسّسة في غزة، إن «المكان على بساطته، مهمّ وحيوي لصناعة الأمل وتعزيز البقاء في المناطق المهمّشة القريبة من الخط الأصفر»، لافتاً إلى أن هذه النقطة التي استقبلت على مدار الأيام الماضية عشرات الحالات، «تقوم بالدور الذي كانت تؤدّيه المستشفيات التي دمّرها جيش الاحتلال وعطّلها».
ويضيف معين متحدّثاً إلى «الأخبار»، أن «أقرب مكان يمكن الحصول فيه على الرعاية الأولية والإسعاف والطوارئ، هو مستشفى الشفاء، على بعد 13 كيلومتراً من مخيّم جباليا، وهذه المنطقة تتعرّض بشكل مستمرّ لإطلاق نار واعتداءات إسرائيلية (…) رسالتنا خدمة الناس وتعزيز صمودهم ومكافحة الظروف القاهرة التي يسعى الاحتلال بسياساته الظالمة إلى فرضها».
صحيفة الاخبار اللبنانية



