الأدب.. المعيار والقيمة

 

يشغل الأدب بمختلف أجناسه مكانة لا ينبغي نكرانها أو التهوين من شأنها على مر العصور، ولم تختصر قيمته في الإمتاع والمؤانسة لكنه يُعد أداة للتغيير والحوار ومادّة مؤثرة في البيئة السسيوثقافية. وعلى وجه اليقين أثبت الفكر المعاصر جدوى ذلك في طرح قضايا إنسانية شائكة واستثماره بدرجات مختلفة كعنصر أساسي في منح تلك الثيمات الإبداعية الفاعلية إلى حدّ النهوض بالمجتمع.

فهل يمكن التعامل مع الأدب على أنه ظاهرة مركزية وجوهرية في شحن الثورات الفكرية والسياسية إضافة إلى قيمته الثقافية وهي أهمية قد يُبرّرها أكثر من نموذج، كأداة عبور وتواصل ومنبر ثوري يطرح قضايا الشعوب والأمم؟

يُعدّ الشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي (1893-1930) واحدا من خمسة شعراء عالميين، استطاع بنجاح ملفت أن يستقطب قاعدة شعبيّة هائلة، ليتمّ تصنيفه كشاعر منبري ومُبشّر. فما قوام لغته ليصبح قائد الشعر المستقبلي الروسي ويضع نفسه في مقارنة مع الشاعر اليكساندر بوشكين وتولستوي، ليختزل مسيرته في قضية أمة باسرها !

لقد أسسّ ماياكوفسكي صيغة جديدة للشعر الروسي واستخدم اللغة كبداية لكلّ شيء. فسيرته كما مأساته محكوماتان بعلاقة وطيدة بينه وبين اللغة التي سخرّها للشعب لتكون ملكا لامة بأسرها.

واللغة الروسية في حد ذاتها غنية بالقوافي والإيقاعات. فكان شعر ماياكوفسكي أقرب إلى موسيقى الروك، إذ شُبّه بأنه شعر ميلتون. فلغته كانت مجاله الواسع لتتجلّى طاقته الشعريّة في البراعة والابتكار مثل شاعر بهلوان ماهر على أرجوحة الخطاب.

فكانت مقدرته هائلة على شحن الجماهير بصوته المُدوي في أصقاع روسيا القيصرية، ليُندّد بالعبوديّة والاستبداد ويحتكّ بقضايا الشعب الكادح، فيزيد في ترسيخ مبادىء الثورة نظرا لما تعانيه البلاد  من دمار هائل وفقر إبّان الثورة الروسيّة الثانية والحرب العالمية الأولى.

وبزغ صيته في أواخر 1920 كشخصية مؤثرة وهو الشاعر والممثل والكاتب وأيضا المخرج، خصوصا بعد انخراطه في الحركة الثورية مع الحزب الشيوعي.

لقد اعتبره المفكرون قد كسّر جميع القواعد والتقاليد في مجال الأدب والفن والحياة الاجتماعية وأضاف نمطا جريئا وجديدا كليّا عن الشعر، اذ حطّم الوزن وحافظ على الإيقاع مُستفزا مشاعر الجماهير ومُحرّضا لها بتوجيه جلّ قصائده إلى العامّة بعيدا عن النخبوية.

وقد عُرف بأدائه الحادّ والانفعالي في خطاباته على الملأ،  ليترك حضورا مميزا وتأثيرا منقطع النظير. فلطالما طاف في ارجاء روسيا ليلقي شعره على الجموع المبهورة بنبرة صوته الجميل والمُجلجل في نفس الوقت، ممّا جعله أقرب إلى خطيب يُحدث فيهم ذلك الأثر العميق والذهول الشديد كقائد ثوريّ .

وكانت أول قصيدة نظمّها فلاديمير ماياكوفسكي بعنوان “ثورة الأشياء” كان يتوّجه الى الحشد الشعبي ويقول :

” كل أشعاري الجبّارة المُدوية لكم أيها العمّال، أيتها الطبقة الزاحفة ”

لقد كان الشعر بالنسبة له “مهمة الحياة الكبرى” ممّا جعله من الأسماء الفاصلة بين قرنين، واسما مؤثرا بين الفن التقليدي والفن الحديث ليَحفر اسمه بعمق في الساحة السياسية والثقافية آنذاك وهو القائل في هذا الصدد: “الفن ليس مرآة تنظر بها لترى الواقع، بل مطرقة نستخدمها لتكوينه “.

وبين طيات كل ذلك كانت معاناة الاغتراب والاصطدام بالفوارق الطبقية والإحساس بالاضطهاد أكبر حافز له ليُسخّر صوته للشعب وهو المنحدر منهم والمترجم لقضيتهم.

يقول في قصيدته الشهيرة “غيمة في سروال” التي تُعدّ من أهم وأنضج ما كتب :

” في روحي لا توجد شعرة شائبة واحدة

ولا رقة الشيخوحة، صوتي يرعد مُجلجلا في هذا العالم

وأمضي جميلا في الثانية والعشرين”

فلاديمير ماياكوفسكي كان ابن الامة وشاعر الثورة ووريث لغتها الشعبية رغم أنه أصيب بخيبة أمل كبيرة جعلته ينهي حياته باكرا (37 سنة) لكنه ظلّ وفيا لمبادئه وانتمائه للوطن، وهو يقول:

“اريد من وطني ان يفهمني

ولكن اذا فشلت في ذلك ماذا بعد؟

سأمرّ على موطني الأم من طرف واحد

مثل وابل مطر ”

يقول عنه الكاتب والشاعر الروسي بوريس باسترناك في كتابه “ذكريات الصبا والشباب” : “كانت الحياة الجديدة الصاعدة، تجري في دمه بقوّة وحماسة ولم تكن غرابة أطواره إلا صورة لغرابة عصرنا الذي نصفه قديم ونصفه جديد، نصفه لم ينعدم ونصفه لم يوجد على حقيقته بعد”.

وخلال النصف الاول من القرن العشرين ظهر أيضا الشاعر اليوناني يانيس ريستوس (1909 – 1990) الذي تعتبر قصائده انعكاسا للأحداث الدامية التي مرّ بها اليونان من احتجاجات واضطرابات كبيرة بسبب الانهيار اقتصادي والاجتماعي.

لقد استطاع بنجاح مدهش أن يعتني بقضيّته من دون أن تطغى على فنه وأدبه في موازنة بين انشغلاته الفردية والاجتماعية. فكان الأبرز في هضم ما يجري وهو المؤمن بقدرة الشعر على تغيير العالم.

وهذا يبرز جليّا من خلال كلماته الصاخبة وهي تحفر على الصخر وتتماهى كحجارة صلبة فيقول:

“الكلمات كمثل الحجارة، يمكن لنا أن نبني بها “.

فالشعر عنده مسار صعب وصراع من أجل اكتشاف المعنى الأخير للعالم فهو المقاوم للزمن والتلف والموت. وهذا يبرز جليّا وهو يقول :” وإذا لم يكن الشعر هو الحل، فعبثا ننتظر النغمة من أي شيء”.

وبما أن الشعر موهبته التي ولدت من رحم الحرية وهي “المهارة الخلاقة وراء كل عمل ناجح” لا الخطابات المُدّونة سلفا ولا قاموس النظريات فهي لا تعرف الحدود.

فيقول في قصيدته الأشهر “معنى البساطة “:

الكلمات كمثل الحجارة، يمكن لنا أن نبني بها

” كل كلمة هي منفذ

إلى لقاء يخفق غالبا

وفي هذا التشبث باللقاء

تكون كلمة أصيلة”

لقد أسسّ مسرحا شعبيّا في بلدة كوزاني، وكتب مسرحية “أثينا تحت السلاح” وتعرّض للاعتقال والتعذيب في سجنه الطويل، لكنه ظلّ يكتب ويزلزل كيان أمة من خلال كلماته المُدويّة في القلوب. وسنة 1974 يصعد “نظام الوحدة الوطنية” وتمنحة جامعة تسالونيك شهادة الدكتوراه الفخرية لكونه يشمخ من أربعين سنة كركيزة  للأمة  اليونانية وكصوت جوهريّ لها.

وقد وصفه الشاعر الفرنسي لويس ارغون بأنه “ارتجافة جديدة في الشعر الحديث” ليلمح ان يانيس مد ضلعه الأخضر لينبجس مصير خصب وارف بالحياة بعيدا عن انفاس الخنوع والقوى  الظلامية .

واللافت هنا، أن بعض المبدعين اختاروا لشخصياتهم هذا الدور الفاعل والمهمّ في حمل ميراث الأمم ومستقبلها المُزدهر، فضلا عن خياراتهم المُفعمة بالفن والابتكار، وبوعيهم بقضاياهم الوطنية لإحداث احتمالات إيجابية للغد، وهذا ما يجعل ثيمة القلق تُطلّ دائما في بيئتهم الإبداعية ليترادف ذلك مع الثبات والإصرار في توظيف أصواتهم وأعمالهم لتوعية العقول. الامر الذي حمّلهم تلك الرؤى التنبؤية للتغير فتنشغل بها أجيال وأجيال كصرخة حياة أمام التوجس والمخاوف من المستقل، باعتبار أن الأدب مصدر لتوثيق ذلك الخطاب الثوري المتناقل عبر الأزمنة ليكشف مزيدا من الرموز الفنية والشخصيات الأدبية الفاعلة في مصير الإنسانية ككل.

ميدل إيست أونلاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى