كتب

الأدب في بُعده عن الساحل

يوارب عبدالفتاح كيليطو في كتابه “التخلّي عن الأدب” الصادر في أواخر العام المناضي (2022)، باب الأدب متحكما في المساحة ومدققا في المسافة، كاشفا لسر الغلق والفتح والوصل والفصل. ومن ثم، فإن هذا الكتاب الجديد يمكن عدّه جزءًا ثانيا أو تكملة لما جاء في كتابه “في جو من الندم الفكري“(2020)  أو صيرورة لحكايته مع الأدب، أسطورته الشخصية ومساره الفكري. إن الكتابة الأدبية عند هذا الكاتب ما لبثت مقامات منفصلة وموصولة في آن، قابلة للتقطيع والتمديد، فنُّ انتقال وهزمٌ لملل المؤلِّف والقارئ معًا.

يطلعنا كيليطو، في فصل من كتابه الفكري الجديد، على إحدى طرق اشتغاله على بورخيس، الكاتب الأرجنتيني الجديّ في تعامله مع المؤلفين العرب والمطّلع على الأدب العربي القديم. لقد أشعر بورخيس كيليطو بارتياح حين أقبل هذا الأخير على قراءته، محاولا عقد حوار معه، يقول إنه معتز وممتن له على ذلك الجانب العربي الذي يبدو وكأنه يجمعنا ببورخيس في باب القربى والنسب؛ وبالتالي، فهو يجد بأنه كاتب ليس غريبا أو بالأحرى فإن غرابته تتجلى في ألفته.

أشار كيليطو “في جو من الندم الفكري” إلى فكرة أن بورخيس هو الجار، بورخيس الذي يقول “قد يكون من المبالغة الادعاء أن عداء يوجد في علاقتنا؛ أعيش وأترك نفسي أعيش، لكي يتمكن بورخيس من حياكة أدبه وهذا الأدب يبرّرني… تدريجيا، أتخلّى له عن كل شيء، مع أنني أدرك هوسه المنحرف بتزييف كل شيء وتعظيمه”.

ويحدثنا كيليطو، في كتابه “بحبر خفي” (2015)، عن تعلم بورخيس للغة العربية في عامه السابع والثمانين، متمنيا أن يقرأ بها كتاب ألف ليلة وليلة الذي افتتن به طيلة حياته، فهو الذي كتب عن المعتصم وابن رشد وابن خاقان، ظل يسعى ولا ريب إلى اكتساب اللسان الفصيح الذي دوّن به الأدب العربي القديم؛ لكنه توفّي قبل تحقيق حلم الإنصات إلى حديث شهرزاد. المفارقة التي خلص إليها كيليطو هي أن الفترة التي كان يبحث فيها بورخيس عن معرفة اللغة العربية تزامنت تقريبا مع الفترة التي وجد فيها المثقفون العرب أدبه وانكبوا على ترجمته.

ربما حين كان بورخيس عائدا إلينا سبقناه إلى أنفسنا.

عداوة الحليف

يفشل الأدب حين يجعلك الكاتب تشعر بأن السرد يحمل خيبات أمل وفشلا متواليا، وحين يُبرز الأدب الهوة السحيقة بينه وبين الحياة، وعندما يخفق الشخص الروائي في ترجمة السرد إلى واقع معيش، ولمّا يجد الأمر عصيا ومستحيل النقل، فإنه يجابه اليأس ويستمر في السعي نحو إعطائه طابعا فعليا؛ غير أنه لا يفكر في التخلص من الأدب أو التخلي عنه.

ذلك ما سبره كيليطو في عالًم ثيرفانطيس، صاحب دون كيخوته؛ وهو أن قارئ الروايات الشغوف وعاشق الحديث عنها قد يكون في الوقت ذاته أشد أعدائها، مؤكدا أن “أكثر الكارهين للأدب هم المولعون به ومن يساهمون في استمراره، كما هو حال أبي حيان التوحيدي”. كذلك اعتبر ثيرفانطيس وقد تحلى باسم ينتمي جهارا إلى لسان العدو، حين ادعى أن مؤلف رواية دون كيخوته هو المؤرخ العربي حامد بن الأيّلي الذي ينتمي إلى سلالة من يدعوهم ثيرفانطيس الأعداء الكبار؛ لكن نسبة هذه الرواية تحتاج إلى مسوغ ومصداقية دفع تأملها كيليطو إلى التفكير في الأدب العربي على ضوء ادعاء ثيرفانطيس، وجعل منها فرصة للنظر إليه من زاوية جديدة لم تكن في حسبانه وانطلاقا من نسبة زائفة.

في كتابه “أتكلم جميع اللغات، لكن بالعربية”(2013) الصادر ضمن “جدل اللغات، الجزء الأول من الأعمال” (2015)، يتساءل كيليطو: “لماذا لجأ ثيرفانطيس إلى تخيّل فكرة المخطوط الذي يتم العثور عليه؟ لماذا اللجوء بالضبط إلى كاتب عربي؟” يجيب كيليطو في “التخلّي عن الأدب” عن هذه الأسئلة وغيرها محاولا فك اللغز، نزع القناع وكشف الوجه الحقيقي، موضحا أنه إذا كان ابن الأيِّلي هو ثيرفانطيس وهذا الأخير عدوّ لنفسه، فإنه العدوّ والحليف في الوقت نفسه. وبعودة كيليطو إلى دلالة الاسم وإن كان فيها نظر، فإن ثيرفانطيس لم يتخلَّ عن اسمه إنما ترجمه إلى اللسان العربي، لأن “ثيرف” (ciervo) تعني حيوان الأيِّل باللغة الإسبانية وهكذا يكون في هذا التخلّي عن الاسم احتفاظ به أو في هذا الاحتفاظ تخلٍّ عنه.

هامش المتن

تكلم المفكر عبدالسلام بنعبدالعالي، في دراسته المعنونة “عبد الفتاح كيليطو أو عشق اللسانين” (2022)، عن أهمية ما يكتبه كيليطو على العتبة وخارج المتن، ليس من حيث المكان أو الرتبة إنما فيما يتعلق بالدلالة والمعنى؛ فهي نصوص تنفتح على شرفات قد لا ينفتح عليها الكتاب، ربما كان تركيز بنعبدالعالي على براعة الكاتب في الاهتداء إلى ما يناسب من أقوال غيره، فتغدو اقتباسات قد تتخذ في عيني المؤلف أهمية تفوق النص ذاته.

يهتم كيليطو، أيضا، بما يقع خارج المتن في نصوصه الموازية؛ ما يدفع قارئ “التخلي عن الأدب” إلى التركيز فيما يوثقه وما يوضّحه في هوامش الكتاب، وهذا التخلّي المؤقت عن النص هو في أساسه عودة إليه.

في الهامش الذي يحمل رقم (43)، يكتشف كيليطو، أثناء قراءته لكتاب “الجغرافية البشرية للعالم الإسلامي” للكاتب الفرنسي أندري ميكيل، أن مقامات الهمذاني ومقامات الحريري تنتميان إلى الأدب الجغرافي، وأن شخصيات المقامات عرفت الرحلة من بلد إلى آخر ووجدت الأدب أينما حلّت. وابتداء من القرن التاسع عشر تغيّر مجال السفر الذي سيتجاوز البلدان الإسلامية ويمتد إلى الغرب، حاصل الاختلاف فيما يوصف كان له تأثير أكيد على الانتقال من المقامة إلى الرواية التي نجد أن موضوعها، بعودتنا إلى متن “التخلي عن الأدب”، لم يعد يُكتب على النمط القديم أي على نمط المقامات.

قارب الأدب

ما الذي دفع كيليطو، في ثمانينات القرن الماضي، إلى مناقشة أطروحة موضوعها “السرد والأنساق الثقافية في مقامات الهمداني والحريري”، باللغة الفرنسية، وفي جامعة السوربون؟

نحسب أن الإجابة وقتها عن هذا السؤال لم تكن جد مقنعة، إذا كان هو ذاته قد وجد نفسه خلال إنجازه لها وكأنه روبنسون كروزو في جزيرة خالية معزولة، منهمكا في صناعة قاربه بعيدا عن البحر، دون أن يحذو حذو روبنسون الذي تخلى عمّا صنعه بعد سنوات وغادر إلى بلده في سفينة. تهيّب كيليطو من الإسراع بالإبحار ومن ثمّ الارتطام بالصخور، وفضّل التريّث في تتبع آثار الأقدام التي تبدّت له على رمل الشاطئ، تلك التي أبعدت عنه الشعور بالوحدة، وأبصر فيها خطوات زوار أجانب ربما وثّقت لهم علاماتها سبق الوصول إلى بحر الأدب العربي القديم، ذلك المتخلّى عنه كقارب بعيد عن الساحل.

 

مجلة الجديد اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى