الأديب بين مطرقة الإلتزام وسندان الذاتية

 

إذا كان الشاعر حلمي سالم قد تحدث عن قضية “الوضوح والغموض في النص الأدبي” لدي دراستة عن أمير شعراء الرفض أمل دنقل، ووصفها بأنها قصية قديمة متجددة على الدوام فسماها “قضية الأرواح السبعة”، فهناك قضية أخرى تليدة متجددة دائمًا هي قضية “الأدب والمجتمع” والتي أرى أنها تستحق أن يُطلق عليها هذا التعبير بجدارة، فهي القضية التي لا يهدأ حولها غبار الحجاج حتى ُيثار من جديد، في كافة العصور والمذاهب الأدبية، وانطلق الحوار الطويل ليمحص الرؤى حول كينونة الأدب ووظائفه. بل وصفها د. عبدالمنعم تليمة بأنها قضية القضايا في الجمالية، يقول: “الفن في حقيقته صدى للواقع، والفنان العظيم صوت الجماهير، يخلق موازة للواقع ولا يخلق عكسًا مباشرًا قط“.

وتأسس مفهوم “الإلتزام” للتعبير عن صلة الأديب بالقضايا الإجتماعية والوطنية، وهو المفهوم التليد بثوب جديد، وإن كان في القديم أكثر إنسانية، وأقل حدة، يتحدث عنه الشاعر بدر شاكر السياب في كتاباته النثرية: “ليس موضوع الإلتزام واللإلتزام في الأدب العربي بصفة عامة، وفي الشعر بصورة خاصة بالموضوع الجديد. لقد عرفه القدماء ولكن تحت اسمين آخرين غير الإلتزام واللإلتزام وبحدة أخف .. حيث كان الشعر – وبالتالي الأدب بكل فنونه – ينقسم إلى أدب موضوعي وهو ما يقابل الأدب الملتزم وإلي أديي ذاتي وهو ما يقابل الأدب غير الملتزم”.

والأديب العربي حين يطالع أحوال مجتمعه، وما يعانيه من ضيق تنفس اجتماعي، وأخلاق الزحام، والنحر الجمالي، والتصحر في التواصل الإنساني، والتنمر والنهش العام، واجتياح العدو المتآمر يهدد أوطانه، يجد نفسه مدفوعًا دفعًا للإلتزام نحو هذه القضايا. يقول الكاتب محمد جبريل: “المبدع هو أشد الناس إلتصاقًا بقضايا مجتمعه وقضايا الإنسانية بعامة. إنه يمتلك من المعرفة والوعي ما يتيح له النظرة الشاملة، الرؤية التي تناقش وتحلل وتتفق وتختلف .. المبدع قائد ثقافي في مجتمعه، وهذه القيادة لا تبين في التغزل بالقمر، ولا التغني بقطر الندي، لا قيمة لأي إبداع يغيب عنه الوعي في مواجهة الخطر .. نحن نواجه أشرس غزوة .. في اتجاه الحفاظ علي الأرض والكينونة والهوية”.

وقد تباينت المواقف بشأن الذاتية والموضوعية في العمل الأدبي في رؤية الأدباء، وحسم بعضهم موقفه، وأوقف أدبه حول القضايا الوطنية والقومية حصريًا، نموذجًا الشاعر أحمد مطر عندما أطلق صيحته:

“لعنت كل شاعر / ينام فوق الجمل الندية الوثيرة / وشعبه ينام في المقابر / لعنت كل شاعر / يستلهم الدمعة خمرًا / والأسي صبابة / والموت قشعريرة / لعنت كل شاعر / .. / لا يرى فوهة بندقية / حتى يرى الشفاه مستجيرة / .. / ولا يرى مشنقة / حتى يرى الضفيرة!”.

وهناك شعراء ونصوص كثر أنطلقت عبر هذا الأداء، ترى أنها أمام أزمة الأديب الواجبة في تناول قضايا وطنه لعظم خطرها، ولما تحمله أمانة كلمته ودورها المشهود في مقاومة الفساد ودفع عجلة الخير، بأسلوب فني أخاذ. لذلك يقرر هؤلاء الأدباء أن يدعوا يراع الأشواق وأن يمتشقوا حسام الكلمة، وعبروا عن هذه الفكرة وأعلنوا عن اخيتارهم هذا بكل جسارة لا زهدا في عاطفة الحب نحو “الأنثي” الحبيبة ولكن لان الأوطان هي الحبيبة الأولى بالكتابة، وليس استهجانا كي يعبر الأديب عن عواطفه ولكن لأن قطرات الدماء المنهمرة تحمل لعنات البرئ أولي بالرعاية والتنبه من قطرات دموع الفراق وآهات اللواعج اللاهبة، لأن اللهيب الذي ينذر الأوطان قد أحرق الأخضر واليابس. كأنهم يشيرون لوجوب حسم الأديب موقفه حول قضية الذاتية والموضوعية، وهل يظل هكذا يتغني بأهازيج الحب وأمته مترعة بالجراح تحتسي كؤوس الذل حتي الثمالة؟

بينما يرى ويرد فريق آخر أنه ليس هناك من حظر على الأديب أن يعبر عن أفكاره وإحساسه في شئون الحياة كافة، وفي القضايا والمشاعر التي تعني لقلمه أن يبحر في أجوائها وعبر طقوسها وفكرها، فيمكن له أن ينثر نصوص الحب الرقيق والتي تخبر عن عاطفته وهيامه وأحوال لقائه وفراقه في إبداعه، ويكتب أيضًا للوطن، ويسبر قضاياه عبر بحور الشعر، وفنون السرد، وحوار المسرح.

فالأدب في حقيقته وثيقة فنية / اجتماعية في الوقت ذاته، وفي أحد مفاهيم الأدب تحدث الناقد أحمد ضيف قائلا: “الأدب الكلام الفني الممتع الذي يملأ نفس السامع وعواطفه، في أي موضوع كان، وعن أي معني دل”.

وفي نص شعري للشاعر د. إيهاب عبدالسلام نجد هذا المزج الطريف بين الذاتية والموضوعية، أو الأحاسيس الوجدانية والهموم القومية، حيث حسم هذا الصراع الذي يشتعل في وجدان الذات الشاعرة، وحدد اختياره:

“لي فى الهوى والقلب ليس بخالي ** لكن أقول لسائلي: أنا مالي

الأربعون تشدني لوقارها ** لكن قلبي دون سن عيالي

قال الرفاق: الشعر زيف في الهوى ** فاكتب قصيدة داعيًا لنضال

اكتب عن الأقصي الأسير قصيدة ** واندب زمان المجد والأبطال

فلربما تحيا العروبة بعدما ماتت ** وتنعم قدسنا بوصال

فأجبتهم والشعر يخفي وجهه خجلًا ** ويكتم ضحكه المتتالي

الشعر صار مسكّنًا في أمة ** تحتاج ألف جراحة استئصال

ويبقي حديث طويل لا ينقطع حول نظريات كثر في علم اجتماع الأدب، بدأت بنظرية الانعكاس “المجتمع في الأدب” أو “مرآوية الأدب”، ثم التطور اللاحق بنظرية “ضد الإنعكاس” أو “الأدب في المجتمع”، بتأثير الآثار الأدبية للتغيير في المجتمع، فيصبح الأدب فاعلًا في المجتمع ليس من خلال دراسة المشكلات وإقتراح الحلول، فالأدب ليس ملزمًا بهذا، وإنما لكونه الوثيقة النفسية والإبداعية التي تقدم مشكلات الواقع – البائس – والإبانة عن قضاياه بتعميم الخاص، وتخصيص العام، وبتقنيات جمالية مؤثرة ولافتة للنظر، ومن ناحية أخرى يقرع أجراس الإنذار، ويستشرف أفق المستقبل، الذى نرجو فيه السلامة.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى