الأزمات العربيّة والمسألة الثقافيّة
كثيرة هي العوامل التي تراكمت آثارها على مدى عقود، وأنتجت المشهد الدموي الراهن الذي تقترن فيه معارك داخلية طاحنة في بعض البلاد العربية بصراعات إقليمية وحروب بالوكالة في منطقة الشرق الأوسط. غير أنّ التركيز المتواصل على العوامل السياسية والاقتصادية الداخلية والإقليمية والدولية يحجب في معظم الأحيان البُعد الثقافي الذي لا يكتمل في غيابه فهمنا للمدى الذي وصلت إليه الأزمات في منطقتنا.
… وفضلاً عن أن تأصيل البُعد الثقافي ضروري لتفسير عمق هذه الأزمات وتجذّرها في قلب كثيرٍ من المجتمعات، فهو يُعدّ شرطاً لا بديل عنه في أيّ عمل جاد من أجل حلّها، أو وقف تفاقمها وتجنّب المزيد منها.
وهذا بعض ما يعلّمنا إيّاه التاريخ، وبخاصّة منذ العصور الوسطى حتّى اليوم. كانت المسألة الثقافية حاضرة في قلب أيّ صراع بلغ مثل هذا المبلغ الذي نشهده في المنطقة الآن. وربما يجوز القول إنّ هذه المسألة ملازمة للصراعات الأكثر دموية، والأشدّ استعصاء على الحلّ أو التسوية. وتقع قضية الآخر والموقف تجاهه في موقع القلب من المسألة الثقافية.
ولذلك انتبه كثير من المفكّرين الغربيّين إلى أهمّية هذه القضية عندما انفجر الصراع الأكثر دموية في تاريخ أوروبا بين القرنين السادس عشر والسابع عشر. فما كان ممكناً أن تشرق شمس التقدّم في عالم يُمزّقه التعصّب الديني والمذهبي والعرقي، وغيره من أشكال رفض الآخر. ومن هنا تأتي الأهمّية التاريخية الكبرى للتحوّل الذي حدث في أوروبا عبر ترسيخ مبدأ قبول الآخر. لم يصل إلينا بعد هذا التحوّل، وما يقترن به من تحرير العقل من أسر الجمود، لكي يُبدع ويبتكر ويُنتج “إنساناً جديداً” يدرك أنّ تفتّح الورود بألوانها المختلفة في المجتمع يجعله بُستاناً يانعاً، وأنّ منع هذه الورود من التفتّح يحيله غابة قد يصبح القتل فيها غاية في ذاته، وليس وسيلة فقط للتخلّص من المختلفين دينياً أو مذهبياً أو عرقياً أو سياسياً أو فكرياً. وكان تأصيل مبدأ التسامح تجاه الآخر المختلف ثمرة هذا التحوّل الذي أدّى أيضاً إلى إدراك مدى أهمّية المسألة الثقافية في إشعال الصراعات الأكثر دموية، كما في إخمادها وتغيير البنية التي تُنتجها.
وعلى الرغم من أنّ إسهام جون لوك (1632-1704) في هذا المجال هو الأكثر شهرة لدى العرب، بسبب ترجمة بعض أهمّ أعماله إلى العربية، وفي مقدّمتها “رسالة في التسامح”، فهو لم يكن إلّا واحداً من كُثر أسهم كلٌّ منهم بمقدارٍ في هذا التأصيل، وفي مقدّمهم جون آدون، وجون هنري، وروبرت فرجسون، ووليم بين، وبيير بيل.
وعندما نتأمّل، على سبيل المثال، كتاب جون آدون”Truth and Innocency Indicated”، الصادر عام 1660، والذي لم يُترجم إلى العربية، نشعر كما لو أنّه كتب عن أزماتنا الراهنة. فهو يحذّر من أخطار رفض الآخر وشيطنته، والتعصّب ضدّه، ويوضح أنّ العنف قد يبدأ لفظياً، وأنّه ينتشر نتيجة تبرير اضطهاد المختلفين، وتأليب الناس عليهم. كما يدعو إلى تقدير العقل الإنساني وإتاحة الفرصة أمامه لكي يُنير الطريق.
وقُلْ مثل ذلك عن الكتابات التي عالجت قضية رفض الآخر، ووضعت أساس مبدأ التسامح، في القرن السابع عشر. فقد تطوّر الوعي بخطر رفض الآخر تدريجياً، مع انتشار الصراعات الدموية. فعلى سبيل المثال، راجع لوك “رسالة في التسامح” مرّتين في طبعتَيها الثانية والثالثة. ولم يصل مفهوم التسامح لديه إلى ما نعرفه عنه إلّا في الطبعة الثالثة التي تُرجمت إلى العربية. فقد حثّ في الطبعتَيْن الأولى والثانية على التسامح فعلاً، ولكنّه جعله مشروطاً بامتناع المختلف عن التعبير عن اعتقاده أو موقفه. فإذا عُرف عن شخص أنّه يؤمن بعقيدة مرفوضة في مجتمعه، أو في أوساطٍ نافذة فيه، ينبغي التسامح معه ما دام لم يجهر بما يعتقده، ولم يدعُ إليه. فكان الفصل بين حرّية الاعتقاد وحرّية التعبير غالباً لدى لوك في البداية.
ولكنّه لم يلبث أن راجع نفسه وأعاد التفكير في العلاقة بين الاعتقاد والتعبير عنه. وواضح من الطبعة الثالثة لرسالته أنّه أدرك أنّ التسامح مع الآخر الذي يمتنع عن الدعوة إلى اعتقاده المختلف لا يؤدّي إلّا إلى إرجاء الصراع الذي يترتّب عن اضطهاده، أو ربما إشعاله على نارٍ هادئة تستغرق وقتاً أطول. ولكنّه لا يحلّ المعضلة التي تنتج عن التعصّب، وما يؤدّي إليه من عنف ضدّ الآخر. ووصل عبر هذه المراجعة التي لم يكتب عنها صراحة، ولكن يسهل استنتاجها، إلى أنّ التعبير عن المعتقدات المختلفة حقّ أصيل، مثله مثل الإيمان بهذه المعتقدات، وأنّ كتم هذا التعبير لا يضع حدّاً للتعصّب وبالتالي للاضطرابات والحروب. واقترنت هذه المراجعة لدى لوك بطرحه رؤية أوسع للاهتمام الإنساني في مجمله، وليس فقط لمبدأ التسامح، في إطار تصوّر متكامل للعقد الاجتماعي.
وكانت هذه الإسهامات التي قدّمها عددٌ من المفكّرين في القرن السابع عشر أساساً لتراكمٍ معرفي في تأصيل مبدأ قبول الآخر والتسامح معه. وقام مثقّفو التنوير وفلاسفته في القرن الثامن عشر بدورٍ محوري في هذا التراكم، وخصوصاً فولتير (1694-1778) الذي ربط بين الحرّية والتسامح. وما زالت عبارته الخالدة، عن استعداده للتضحية بحياته من أجل حقّ المختلف معه في الدفاع عن رأيه، أيقونة ترمز إلى الحرّية، بل تُعدّ أهمّ التعبيرات الرمزية عنها في الفكر الإنساني حتّى الآن.
ذهب فولتير إلى أبعد مدى في تأصيل مبدأ التسامح، فجعله مقياساً لإنسانية الإنسان، ونبَّه إلى أنّ الإنسان ضعيفٌ بطبعه وقابلٌ لارتكاب الخطأ، الأمر الذي يفرض أن (يسامح بعضنا البعض، وأن نتسامح حتّى مع جنون بعضنا بشكل متبادل). ورتَّب فولتير على ذلك أنّ التسامح هو المبدأ الأوّل في حقوق الإنسان برمّتها.
ولذلك كتب الشارح الأبرز لمبدأ التسامح في القرن العشرين، وهو كارل بوبر أنّه لم يقرأ عن هذا المبدأ أعمق وأروع ممّا كتبه فولتير. ولكن ما كتبه بوبر نفسه قد يكون أعمق. فقد بلور هذا المبدأ في كتابه المترجم إلى العربية “المجتمع المفتوح وأعداؤه”، ثمّ في مقالة عميقة عنوانها “التسامح والمسؤولية الفكرية”. وذهب إلى أنّ التسامح هو الأساس الأول للديموقراطية (لا أتصوّر ديموقراطية في مجتمع لا يجد كلّ فرد فيه نفسه موضع تسامح من جانب كلّ فرد آخر، أو لا يؤمن معظم المواطنين فيه بحقّ الآخر في أن يكون مختلفاً).
وفنَّد بوبر المجادلات التي تدعو إلى عدم التسامح مع من لا يؤمن بمبدأ التسامح، عندما انتشرت في الغرب نتيجة الكارثة التي ألحقتها النازية والفاشية بالعالم، وبسبب تنامي المخاوف من انتشار الشيوعية. وسعى إلى إثبات أنّ مبدأ التسامح غير قابل للتجزئة، ما دام هو العاصم الوحيد ممّا أسماه (الوقوع في أسر شعور غريزي بالغ الخطر بأنّني على صواب دائماً وأملك الحقيقة كاملة).
وانتهى بوبر إلى تلخيص مبدأ التسامح في ثلاثة عناصر جوهرية قد لا يكون هناك مخرج من أزماتنا الراهنة من دون استيعابها. وأوّل هذه العناصر أنّني قد أكون مُخطئاً، وقد تكون أنتَ على صواب. والثاني أنّنا حين نتحاور بشكل عقلاني نصل إلى تصحيح أخطائنا. والثالث أنّ هذا الحوار يساعدنا على أن نقترب معاً من الحقيقة.
غير أنّه لكي نستوعب هذه العناصر، ينبغي أن نتأمّل دلالة التجربة الغربية التي لعب فيها الفكر دوراً بارزاً في مواجهة الصراعات والحروب الأهلية عبر تقويض الأساس الذي تقوم عليه، وهو رفض الآخر والإصرار على تغييره ليكون مثلنا أو قتله إذا لم يتغيّر.
ولعلّ أهمّ ما تنطوي عليه هذه الدلالة أنّنا في حاجة إلى ما هو أبعد بكثير ممّا يتحدّث عنه كُثر في العالم العربي الآن، وهو تطوير الفكر الديني أو تجديده. يبدو هذا الحديث في كثيرٍ من الأحيان مفارقاً للواقع لأنّ التجديد الفكري لا يعني تصحيح أفكار سابقة بطريقة مدرسية، ولا يحدث في غرف مغلقة، أو من خلال وسائل الإعلام، بل عبر تفاعل خلّاق بين أفكارٍ جديدة تُسهم في نقل البنية المجتمعية من الجمود إلى التطوّر، ومن الحياة في الماضي والحسرة على الواقع إلى الانطلاق نحو المستقبل. فقد أصبح الحديث المتكرّر عن تطوير الفكر الديني أقرب إلى شعارات نُردّدها لأنّ هذا التطوير لا يحدث عملياً إلّا عبر تبلور فكر جديد.
والحال أنّنا في حاجة اليوم إلى فكرٍ عربي جديد يقوم على مبدأ قبول الآخر – أيّ آخر – والتسامح معه، انطلاقاً من الإسهامات العربية القليلة في هذا المجال وتطويراً لها.
*نائب مدير مركز الدراسات السياسيّة والاستراتيجيّة في الأهرام
مجلة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)