الأزمة السورية كتظهير للوضع الدولي … هناك أزمات تظهر صورة الوضع الدولي في لحظتها، بعد تراكمات كمية لسنوات قبلها تكون تلك الأزمة هي لحظة تظهير تحولها الكيفي إلى صورة جديدة للتوازنات في اللوحة العالمية: في خريف عام 1938، وفي أثناء مؤتمر ميونيخ الذي أعطت فيها بريطانيا وفرنسا تشيكوسلوفاكيا لهتلر من أجل تسكين شهيته التوسعية بعد أزمة استغرقت أشهراً، وضح بأن النظام الدولي الذي أقامته معاهدة فرساي عقب الحرب العالمية الأولى هو على وشك الانهيار وبأن عصر الدولتين العظميين، أي انكلترا وفرنسا، يدخل في مرحلة الأفول. في خريف 1956، أعطت أزمة السويس تظهيراً لصورة نظام دولي جديد فيه ثنائية قطبية بين واشنطن وموسكو مع تظهير صريح بتلك الأزمة لعملية غروب شمس لندن وباريس.
مع انهيار نظام الثنائية القطبية في خريف 1989 وتحول واشنطن إلى قطب واحد للعالم، أظهرت حرب الكويت 1991 وحرب كوسوفو 1999 وغزو أفغانستان 2001 وغزو العراق 2003 تلك القطبية الأحادية الأميركية، وإن كانت الأزمة العراقية الناشبة قبيل الغزو قد أبدت اعتراضات فرنسية- ألمانية أمام واشنطن انقلبت إلى مماشاة فرنسية لسياسات الإدارة الأميركية رأيناها عند شيراك منذ صدور القرار 1559 الخاص بلبنان في أيلول (سبتمبر) 2004 ثم عند خلفه ساركوزي وفي ألمانية حصلت سياسات معاكسة عند المستشارة ميركل بعد توليها السلطة في برلين عام 2005 بخلاف سلفها شرودر الذي اصطدم كثيراً مع كلينتون وبوش الابن.
في إدارة احتلالي أفغانستان والعراق ظهرت التخبطات الأميركية، وهو ما ساهم في تظهير بدايات ضعف القطب الواحد للعالم، وبالذات في منطقة الشرق الأوسط التي كان تركيز واشنطن واضحاً عليها أكثر من أية منطقة أخرى في العالم في مرحلة ما بعد الثنائية القطبية.
وساهمت نتائج حرب تموز (يوليو) 2006، التي لا يمكن عزل نشوبها عن التوترات الأميركية – الايرانية مع استئناف طهران برنامج تخصيب اليورانيوم في آب (أغسطس) 2005 مستغلة مكاسبها المستجدة في العراق وتخبطات واشنطن في العراق وأفغانستان، في زيادة الضعف الأميركي في المنطقة، وفي نشوء توازن اقليمي جديد ضد واشنطن التي أصبحت حاضرة مباشرة عبر جنودها في الإقليم، أصبح فيها هذا التوازن مختلاً لمصلحة طهران التي غدت ممتدة بنفوذها بين كابول والساحل الشرقي للبحر المتوسط في بيروت وغزة، من دون ذكر صعدة وتمردها الحوثي.
أيلول 2008 عند ضفتي الأطلسي.
أنتج هذا تراكماً في القوة انزاحت من أيدي القطب الواحد خلال سنوات 2008-2010. لم تظهر حصيلة هذا الانزياح في الصورة العامة للتوازن الدولي في معالجات البرنامج النووي الايراني في الأمم المتحدة (2006-2011) ولا في الأزمة الليبية (2011): كانت الأزمة السورية (منذ 18 آذار/ مارس 2011) منصة لتظهير الصورة الجديدة للوضع الدولي في مرحلة اهتزاز وتراجع قوة القطب الواحد للعالم.
سنوات من «إعادة صوغ المنطقة».
هنا، دخلت موسكو على الخط: تراكم نمو القوة الروسية، و معها تكتل (البريكس)، وانزياحات القوة من واشنطن، أتاح للعاصمة الروسية، ومن وراءها بكين، أن تحوِل الأزمة السورية، وعبر فيتو 4 تشرين الأول (أكتوبر) 2011، إلى أول أزمة دولية تحصل في فترة ما بعد الثنائية القطبية، وهو ما لم يحصل في بلغراد 1999 ولا في بغداد 2003. هذا ليس متعلقاً بسورية، وإنما بعموم المنطقة، التي من الواضح أن من يسيطر عليها سيسيطر على «قلب العالم» وفق تعبير الجنرال ديغول. هنا، سورية هي مفتاح للمنطقة، كما كانت مع الاسكندر المقدوني، ومع الرومان، ومع المسلمين عبر معركة اليرموك التي أعقبها فتح العراق ومصر وبلاد فارس، ثم مع السلطان سليم الأول في عام 1516 مع معركة مرج دابق.
هذا الفيتو الروسي- الصيني المزدوج، المتكرر في 4 شباط (فبراير) و19 تموز (يوليو)، لم يتح لواشنطن ما فعلته في الكويت1991 وليبيا2011 عبر تفويض مجلس الأمن، وفي الوقت نفسه منع توازنه الدولي المستجد، الذي أتت الفيتوات الثلاثة حصيلة له، من أن تكرر الولايات المتحدة تجربة «تحالف الراغبين»من خارج مجلس الأمن كما حصل في كوسوفو 1999 وعراق 2003.
يهدف الروس، وهم الذين يعانون عقد فقدان مصر 1974 وعراق 2003 وليبيا2011 ، من وراء هذه الأزمة الدولية، عبر المنصة السورية، إلى تظهير توازن دولي جديد، تجبر فيه واشنطن على الاعتراف بانتهاء الأحادية القطبية للعالم، من خلال الاعتراف بأن حل أزمة، في بلد مفتاحي لمنطقة هي «قلب العالم» و«خزان طاقته»، لا يكون من دون مشاركة روسيا هذا إذا لم يصل الأمر إلى اقرار واشنطن لموسكو بدور إدارة ملف مرحلة الانتقال، وهو ما تتوارد معلومات عن اتفاق أميركي- روسي ضمني حوله خلف كواليس مؤتمر جنيف في 30 حزيران (يونيو) 2012، وربما كان هذا هو السبب الأساسي لتصاعد العنف على الساحة السورية منذ شهر من أطراف رافضة لذلك، بينهم معارضون سوريون وأيضاً من أطراف خارجية، تريد انشاء وقائع معاكسة على الأرض تمنع حصول هذا السيناريو.