الأزهر.. والغضبة الكبرى (مصطفى عبدالله)

 

مصطفى عبدالله

لم يكن "الأزهر" في يوم من الأيام مجرد مسجد شيد فقط لإقامة الصلاة، وإنما منذ وضع اللبنة الأولى في بنائه كان يهيأ لمهام عظمى، تتعلق بأفكار الناس وعقائدهم، فكان جامعًا للدعوة بالأساس، فلقد أنشأه الفاطميون للدعوة إلى المذهب الشيعى، ثم أغلقه الأيوبيون من أجل الدعوة إلى المذهب السني، ثم أعادت الدولة المملوكية افتتاحه، وشرع أمراؤها في إضافة مدارس العلوم الشرعية إليه، على سبيل الدعاية لهم واظهارهم كملوك وأمراء يهتمون بالدين والعلوم الشرعية، فيزهو صيتهم، ويزيد لهم التمكين بين شعب لا يقدر شيئًا كما يقدر الدين.
ولم يكتف الأزهر بهذا الدور الخطير، وإنما لعب دورًا وطنيًا لا يقل عنه خطورة، فعلماؤه هم من أطلقوا شرارة الثورة على حكم الحملة الفرنسية، ليشتعل غضب الأهالي في معسكرات جنود حملة الفرنسيس، مما لم يكن معه اختيار سوى التفاوض من أجل الرحيل عن مصر.
وهو الأزهر الذي كان له الدور الأكبر في دخول مصر إلى طور جديد من أطوارها عبر التاريخ، أقصد الدولة الحديثة عندما مكن علماؤه لحكم محمد على، ووطدوا له الأمر، لينطلق بمصر نحو التقدم العلمي بسرعة كبيرة.
كما أن الأزهر أسهم فى تأجيج الغضبة الكبرى ضد الإحتلال الإنجليزى الذي نشب مخالبه في جسد مصر، ليقود مشايخه مظاهرات سنة 1919 التي كان لها ما بعدها من تبعات فى سبيل الخلاص من حكم بريطانيا، وهو ما تم بقيام ثورة 23 يولية 1952 .
وفي هذا الكتاب المعنون بـ "تاريخ الجامع الأزهر"، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب فى مشروع "مكتبة الأسرة"، نطلع على رؤية متكاملة لهذا الصرح الإسلامي الكبير، كُتبت بلغة بديعة، تليق بحجم باحث ومترجم ومؤرخ في قامة محمد عبدالله عنان، مؤلف هذا الكتاب البديع.
وإن كانت هذه الطبعة التي بين أيدينا قد صدرت في العام المنصرم 2012، فإن طبعته الأولى لم تصدر إلا فى شهر يونيو/حزيران من عام 1942، وهو ما وضحه المؤلف في مقدمته التي صدر بها طبعته الثانية التي نشرت في عام 1958 بناء على طلب من وزارة الثقافة والإرشاد المصرية آنذاك.
يقول محمد عبدالله عنان متحدثًا عن السبب الأصلي الذي دفعه لوضع هذا الكتاب: "كنت أقصد بإخراجه أن أوجه الأنظار إلى حدث علمي وقومي مهم، هو بلوغ الجامع الأزهر، جامعة مصر الإسلامية الكبرى، عمره الألفي، وإلى أنه يجب أن يحتفل بهذا العيد احتفالًا قوميًا يليق بخطره وعظمته".
وإذا كان المؤلف قد عني في الطبعة الأولى من هذا الكتاب بالإفاضة في تاريخ الأزهر، ونظمه وأحواله خلال العصر الفاطمي، مكتفيًا في باقي الكتاب بالمرور الموجز على تاريخه فى باقي العصور، إلا أنه في الطبعة الثانية، يقدم ما هو أغزر بكثير، فقد أضاف إلى هذه الطبعة فصولًا جديدة، منذ عصور السلاطين حتى عصرنا، وعني عناية خاصة بتفصيل الدور القومي العظيم الذي لعبه الأزهر؛ شيوخه وطلابه، أيام الإحتلال الفرنسي، كما عني، خلال هذه الفصول المضافة، باستعراض جمهرة كبيرة من علماء الأزهر، ومن العلماء الوافدين عليه في مختلف العصور.
وفى سبيل إخراج هذا الكتاب بمثل هذه الدقة والشمولية كان لا بد للمؤلف من أن يلجأ إلى طائفة ضخمة من المراجع المهمة، وهو ما يؤكده قوله "استعنت بمؤلفات المقريزي، والقلقشندي، وابن تغري بردي، والسخاوي، والسيوطي، والجبرتي، والعديد من الوثائق والإحصاءات المتعلقة بمنشآت الأزهر، وموارده، وميزانيته، وشيوخه، وطلابه".
نُسق هذا المؤلف فى كتابين، أولهما مكون من سبعة فصول، تناول فيها قصة هذا الصرح طوال العصر الفاطمي، منذ نشأته وحتى اندحار الفاطميين أمام الإيوبيين، لنكتشف العديد من المعلومات المدهشة، من بينها أن الجامع الأزهر لم يسمى بهذا الإسم فور انتهاء بنائه في العاصمة الجديدة للفاطميين، التي هى القاهرة، وإنما: "سمي المسجد الجديد (جامع القاهرة) باسم العاصمة الجديدة. وأما تسميته بالجامع الأزهر فالظاهر أنها لم تحدث إلا في تاريخ متأخر. بل هناك ما يدل على أن التسمية الأولى، أعنى جامع القاهرة، هى التسمية التي كانت تغلب عليه طوال العصر الفاطمي. والظاهر أن الجامع الأزهر أطلق عليه بعد إنشاء القصور الفاطمية في عصر العزيز بالله، فقد كان يطلق عليها اسم القصور الزاهرة، ومنها اطلق على جامع القاهرة، وهو مسجد الدولة الرسمي، اسم الجامع الأزهر. وأما أصل التسمية فالظاهر أنها ترجع إلى اسم السيدة فاطمة الزهراء ابنة رسول الله وزوج أمير المؤمنين على بن أبي طالب، وهي التي يرجع الفاطميون نسبتهم إليها".
أما ثانيهما فقد قسمه في سبعة فصول أيضًا، تناول فيها الأزهر في عصور السلاطين المماليك، كما تناوله في العصر التركي، ومقاومته وقت الاحتلال الفرنسي، وتوضيح لكيفية إدارة هذا الجامع الكبير ودور مشيخته في حياة المصريين العامة، ثم تناول في آخر فصول هذا القسم الخطوات التي جرت في سبيل إصلاح الأزهر وربطه بروح العصر، إلا أن المؤلف في كثير من الأسى يقول: "وبالرغم من اتسام الأزهر بسمة الجامعات العصرية، لا يزال بعيدًا عن أن يجاري روح العصر فعلًا في تنظيم مناهجه وأساليبه العلمية، فهو لا يزال يعيش على تراث الأزهر القديم، ولا يزال مرجع الدراسة في المعاهد والكليات الأزهرية الحديثة، في علوم الدين واللغة، طائفة من الكتب القديمة التي يعرفها الأزهر منذ العصور الوسطى.
أما القسم الثالث، والأخير، فقد احتوى على بعض الوثائق المهمة، مثل نص سجل الوقف الذي أوقف بمقتضاه الحاكم بأمر الله بعض أملاكه بمصر والقاهرة على الجامع الأزهر ودار الحكمة، وبعض المساجد الأخرى، وكذلك نجد صوراً لبعض الإجازات التي كان يصدرها أكابر العلماء لتلاميذهم، أو لمن يتقدم إليهم من الطلاب، كإجازة التدريس والفتيا والرواية وغيرها، التي تمنح للطالب بعد اجتيازه اختبار قاسٍ في الموضوع الذي طلب إجازته فيه. كما أورد المؤلف في هذا الفصل بعض الإحصائيات التي تهتم بعدد الطلبة والأساتذة في كل حلقة دراسية، والتي بينت أن الأزهر في أيام حكم الأتراك كان يعاني من قلة ملحوظة في عدد الطلاب والأساتذة وصلت إلى أدنى حد.
كما عرج الكتاب على ميزانية الأزهر التي تدرجت من لا ميزانية معتبرة عند نشأته إلى مخصصات واضحة في ميزانية الدولة، بعد أن فقد استقلاله كنتيجة من نتائج ثورة 1952، وضمه إلى مؤسسات الدولة، وتحدث "عنان" عن جراية الخبز، التى كان لها تفصيل لطيف، ففى وقفية "محمد باشا أبي سلطان" كبير أعيان "المنيا"، تم تخصيص رغيفين لكل طالب يوميًا، وثلاثة أرغفة لكل مدرس، وللنقيب المتولي توزيع الجراية أربعة أرغفة، ولشيخ الرواق سبعة أرغفة، بينما للناظر الحسبي شيخ الجامع عشرون رغيفًا يوميًا.


ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى