تحليلات سياسيةسلايد

الأزَمة الاقتصاديّة المِصريّة تتفاقم ومُحاولات ترميم الخِلافات مع الحُكومات الخليجيّة لم تُعطِ ثِمارها..

يبدو أن الجُهود والاعتذارات السياسيّة والدبلوماسيّة والإعلاميّة التي أقدمت عليها السّلطات المِصريّة، وعلى أعلى المُستويات، لم تُفلح في تطويق الأزَمة المِصريّة الخليجيّة، وإزالة الآثار السلبيّة التي ترتّبت على مقال كتبه رئيس تحرير صحيفة “الجمهوريّة” الرسميّة في الثاني من شهر شباط (فبراير) الحالي، وتهجّم فيه بألفاظٍ فظّة، وغير لائقة، على دُول الخليج بسبب وقف مُساعداتها الماليّة لحُكومة بلاده، وحتّى هذه اللّحظة لم تُبادر أيّ حُكومة خليجيّة على التّجاوب مع هذه الجُهود، وتقديم منح أو ودائع لدعم الوضع المالي المُتأزّم في الوقت الرّاهن، ولعلّها وجدت في هذا المقال ذريعةً لتبرير سياسة المُقاطعة الماليّة.

هُناك عدّة أسباب تُفسّر هذا الموقف الخليجي “الانقِلابي” تُجاه مِصر يُمكن تلخيصها في النّقاط التّالية:

أوّلًا: الاعلام المِصري لم يعد على نفس الدّرجة من التّأثير مثلما كان عليه في العُقود الماضية، وكان أحد الأذرع القويّة الضّاربة في يَدِ الحُكومة، لأنّ الدّول الخليجيّة لم تَعُد تحسب حسابه، مُضافًا إلى ذلك أنها باتت تملك امبراطوريّات إعلاميّة ضخمة وحداثيّة، وأكثر تطوّرًا وتأثيرًا، ناهِيكَ عن تراجُع وسائل الإعلام التقليديّة لمصلحة وسائل التّواصل الاجتماعي الأكثر شعبيّةً وتأثيرًا.

الثاني: الحُكومات الخليجيّة كانت تدعم مِصر ماليًّا رهبةً منها بسبب دورها القِيادي التّاريخي للأُمّة العربيّة وتصدّيها لدولة الاحتِلال ودعمها للقضايا العربيّة المصيريّة، وخاصّةً القضيّة الفِلسطينيّة، الآن تراجع هذا الدّور المِصري بشَكلٍ لافت.

الثالث: تجاوز مُعظم الحُكومات الخليجيّة لمِصر بتوقيع اتّفاقات علنيّة مع دولة الاحتِلال في إطار “سلام أبراهام”، وهذا يعني أنها ليست بحاجة للقناة المِصريّة الوسيطة، وترى في الحِماية الأمنيّة الإسرائيليّة المدعومة أمريكيًّا المِظلّة البديلة الأكثر كفاءةً لنظيرتها المِصريّة.

الرابع: الحُكومات الخليجيّة تخلّت كُلّيًّا عن نهجها السّابق في تقديم منح وودائع مجّانيّة “استِرضائيّة” لكُل من مِصر والأردن ومنظّمة التّحرير وسورية (دُول المُواجهة) لأنّها لم تعد دُول مُواجهة بتوقيعها مُعاهدات سلام، وداي عربة في حالِ الأردن، وكامب ديفيد في حالِ مِصر، وأوسلو في حالِ المُنظّمة، وظلّت سورية هي الاستِثناء الوحيد، ورُغم ذلك ووجهت سورية بالمُقاطعة والحِصار والتّآمُر.

الخامس: باتت الحُكومات الخليجيّة تتصرّف مِثل صندوق النّقد الدولي، أيّ أنها تسعى لضمان أمن استِثماراتها، وتحقيق أرباح لها، وقد عبّر عن هذا التحوّل السيّد محمد الجدعان وزير الماليّة السعودي في خِطابه في مُنتدى دافوس الاقتصادي مطلع هذا العام، عندما قال في رسالةٍ إلى الدّول الأربع التي كانت تعتمد على المُساعدات “غيّرنا طريقة المُساعدات كُنّا نُقدّم مِنَحًا مُباشرة، وودائع دُون شُروط، الآن نُريد أن نرى إصلاحات”.

رسالة السيّد الجدعان وحُكومته وصلت إلى الجِهات المعنيّة، وفي مِصر خاصّةً، وانعكس ذلك في تطوّرين مُهمّين:

الأوّل: وضع السّلطات المِصريّة خطّةً مُتكاملةً لبيعِ أُصولٍ في شركاتٍ مملوكةٍ للدّولة والجيش المِصري للمُساهمة في سدّ الفجوة التّمويليّة التي تَبْلُغ حواليّ 17 مِليار دولار على مدى السّنوات الأربع القادمة.

الثاني: إقدام الدّول الخليجيّة عبر مُؤسّساتها الماليّة للاستِحواذ على حصصٍ في الشّركات المِصريّة الرّابحة، وشِراء الأراضي بهدف الاستشمار، مُستغلّةً رُخص هذه الأُصول، وتراجع قيمة الجنيه المِصري (30 جنيهًا مُقابل الدّولار الواحِد).

كان لافتًا أن أكبر المُؤسّسات الماليّة الخليجيّة التي اشترت هذه الأُصول من الإمارات وصندوق الثّروة السّيادي في أبو ظبي، وصندوق الاستِثمارات العامّة السّعودي اللّذين أبرَما في الأيّام الأخيرة 40 صفقة بشِراء أُصولٍ مِصريّةٍ بقيمة 3.1 مِليار دولار من ضِمنها أكبر شركتين للأسمدة (أبو قير للأسمدة، وشركة مِصر لإنتاج الأسمدة) وهُناك مُفاوضات لشِراء أُصول أو شركات أُخرى.

الدكتور مصطفى مدبولي رئيس الوزراء المِصري قال في تصريحاتٍ للصّحافيين الأسبوع الماضي أن هُناك 32 شركة عامّة سيتم طرحها في البُورصة من بينها ثلاثة مصارف كُبرى، وشركتان تابعتان للجيش، ومن المُؤكّد أن مُؤسّسات الاستِثمار السعوديّة والإماراتيّة ستكون من أبرز المُستَحوِذين.

مِصر، ومثلما قال صندوق النقد الدولي تحتاج إلى 14 مِليار دولار فورًا لتسديد أقساط دُيونها الخارجيّة التي تضاعفت ثلاث مرّات في السّنوات العشْر الماضية وبلغت 155 مِليار دولار، وناشد دول الخليج أن تُقدّم قُروضًا أو منح سريعة للدّولة المِصريّة، ولكنّ هذه المُناشدة لم تَلقَ أيّ تجاوب.

كيف ستخرج مِصر من هذه الأزمة الماليّة المُتفاقمة في ظِل غياب أيّ مُساعدات خليجيّة؟ لا أحد يملك الإجابة، وحتّى بيع أُصول الشّركات المِصريّة العامّة لن يُقدّم رُبع هذا المبلغ حسب تقديرات الخُبراء، بعد تصريحات السّلطات المِصريّة بأنّ قناة السّويس خَطٌّ أحمر.

الرئيس المِصري عبد الفتاح السيسي شخّص المرض بدقّة عندما قال في كلمةٍ أمام القمّة العالميّة للحُكومات التي انعقدت في دبي الأسبوع الماضي “مِصر تحتاج إلى ترليون دولار سنويًّا هل هذا المبلغ مُتاح.. لا، وهل نصفه أو رُبعه متاح.. لا لأنّ لِكُلّ دولةٍ ظُروفها”.

أخطار الأزمة الاقتصاديّة المِصريّة كبيرة وانعِكاساتها على استِقرار مِصر والمِئة مِليون من شعبها أكبَر وأضخَم، فماذا يُمكن أن تُقدّم مِصر لأمريكا التي تقف خلف مُعظم هذه الضّغوط أكثر من التّطبيع مع دولة الاحتِلال وتوقيع اتّفاقات كامب ديفيد؟

أمام مِصر خِياران، الأوّل هو التّغيير الكامِل لكُلّ السّياسات المُتّبعة مُنذ كامب ديفيد التي ثَبُتَ فشلها، واستِعادة دورها الرّيادي القِيادي الإقليمي والانضِمام إلى المُعسكر الآخَر الصيني الروسي كُلّيًّا، أمّا الخِيار الثّاني والأكثر ترجيحًا في ظِل ضعف احتِمالات اللّجوء للخِيار الأوّل، هو الوضع اللّبناني الحالي.. واللُه أعلم.

 

صحيفة رأي اليوم الالكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى