الأسرار والوثائق أخطر من ضياع الوثيقة إتلافها (صقر ابو فخر)

 


صقر ابو فخر

 

هل التاريخ علم؟ وما الفائدة منه؟ هل يقدم التاريخ للإنسانية فائدة جوهرية؟ أم أن فائدته الوحيدة هي معرفة الماضي ليس أكثر؟ يقول ابن الجوزي: "إن التواريخ وذكر السِيَر راحة للقلب وجلاء للهم وتنبيه للعقل". وهذا القول يشير، في أحد وجوهه، إلى أن التاريخ لا فائدة منه؛ فلا حاكم يتعظ ولا صاحب شوكة يستفيد من دروسه. وربما كانت فائدته مقصورة على المتعة النفسية (راحة القلب وجلاء الهم)، وعلى المتعة الذهنية (تنبيه العقل). ومهما يكن أمر أي أجوبة أخرى، إلا أن المتفق عليه هو أن التاريخ علم إنساني، وهو رؤية إلى الماضي بعيون الحاضر. وبهذا المعنى فإن العمل الرئيس للمؤرخ ليس تدوين الوقائع، بل إعادة تقويمها، ثم اكتشاف النظام فيها، أو القوانين الاجتماعية والموضوعية التي أدت إلى حدوثها.
إن الدقة في تدوين الوقائع هي في صلب عمل المؤرخ، لكنها ليست هي عمله الوحيد. ولا يمكن امتداح مؤرخ لدقته، فالأمر يبدو كمن يمتدح مهندساً معمارياً لأنه استخدم الحديد الصلب والاسمنت الجيد والأخشاب المتينة في البناء. إن هذا الأمر شرط ضروري يتطلبه عمله. وهكذا، فإن دقة المؤرخ أمر جيد، إلا أن التاريخ، كعلم، يكمن في حقل موازٍ هو حقل المعرفة. ومن بدهيات التفكير أن لا معرفة علمية من غير حقائق موثقة، الأمر الذي يعني أن لا تاريخ من غير وثائق. فالوثائق هي المواد الخام التي يعمل المؤرخ عليها ليستنبط وقائع الأحوال في الفترة التاريخية المرصودة، أي أن الوثائق هي "تابوت العهد" في معبد التاريخ. وينطبق هذا الأمر على التاريخ القديم وعلى التاريخ الوسيط وعلى التاريخ المعاصر معاً. وقد أبتُلي العالم العربي، في جملة ما ابتُلي به، بضعف ميدان التوثيق فيه. وما زلنا، حتى اليوم، كلما أردنا معرفة هذا الجانب أو ذاك من تاريخنا، نسارع إلى التجول في أراشيف الدول الاستعمارية، علّنا نقبس منها بعض ما نريد. وليس غريباً أن أفضل الوثائق عن أوضاع العرب موجودة، لا في محفوظاتنا الرسمية، بل في سجلات الأجهزة الاستخبارية. وهذه السجلات مختومة بخاتم سليمان، ومن شبه المحال الاقتراب منها أو الإطلاع عليها إلا حينما تنقلب الأحوال وتُفك الأختام وتفتح المغاليق.

وثائقنا ليست لدينا
إن أسوأ ما يواجه الباحث هو ضياع الوثيقة أو حجب المعلومات. أما ضياع الوثيقة فهو شأن لا يمكن السيطرة عليه، ولا سيما إذا كانت حوادث الضياع قد وقعت في الزمن الغابر، أو إبان الحروب والكوارث. لكن حجب المعلومات أمر سياسي بالدرجة الأولى، تمارسه السلطات المستبدة لاعتبارات لا تتعلق بالعلم على الإطلاق، بل بمصلحة تلك السلطات التي طالما دأبت على إخفاء كثير من المعلومات التي تعتقد أن الإعلان عنها سيصيبها بضرر لا يمكن احتماله. وإذا كان معظم دول العالم يتيح الإطلاع على الوثائق السرية بعد ثلاثين عاماً (بعضها يحتاج إلى خمسين سنة)، فإن معظم الدول العربية لا تتيح الكشف عن وثائقها حتى بعد انقضاء هذه الفترة حتى لو تغير الرؤساء أنفسهم. فهذه الوثائق من شأنها أن تكشف فضائح كثيرة ربما تُعري هذا النظام تماماً، بل قد تميط اللثام عن المظالم التي ارتُكبت بحق شعبه، وعن مدى التفريط بأمن البلاد حيال القوى الخارجية.
مهما يكن الأمر، فإن وثائق بلادنا متناثرة هنا وهناك، ويمكن العثور عليها في الأمكنة التالية:
1 ـ الأرشيف العثماني.
2 ـ أرشيف الدول الاستعمارية ولا سيما محفوظات وزارات الخارجية والمستعمرات والجيوش.
3 ـ وثائق الأحزاب السياسية.
4 ـ سجلات أجهزة الاستخبارات.
5 ـ سجلات المحاكم الشرعية والأوقاف والكنائس.
6 ـ المكتبات الشخصية والأوراق الخاصة.
7 ـ الصحف والمجلات.
ومن دواعي الأسى، إننا مضطرون إلى انتظار الدول الاستعمارية، في كل مرة تفرج فيها عن بعض الوثائق المتعلقة ببلادنا، كي نبدأ عملية القراءة وإعادة النظر في الوقائع القريبة التي ما زالت متسربلة بالغموض أحياناً، أو بالقراءات المختلفة في معظم الأحيان.

الأسرار المتشابكة
لا تستقيم كتابة التاريخ من غير معرفة الوقائع معرفة صحيحة. ونحن العرب، ما زلنا نتخبط بين معلومات متضاربة وغير يقينية في قضايا كثيرة، وبعض هذه القضايا كان لها شأن خطير في تقرير مصائرنا إلى حد بعيد. وعلى سبيل المثال ها نحن بعد سنوات طويلة جداً فاقت الأربعين عاماً لا نعرف تماماً من اغتال المهدي بن بركة، وهل ان المشير عبد الحكيم عامر انتحر حقاً أم قتلوه، وكيف اغتيل، بالفعل، الملك فيصل بن عبد العزيز، ومَن الذي اتخذ قرار اغتيال عدنان المالكي في سوريا، وكيف مات وديع حداد، وما هي تفصيلات القصة الحقيقية لأشرف مروان، وكيف سقط الجولان في سنة 1967، ومَن اغتال رفيق الحريري، وكيف اغتيل ياسر عرفات، ومَن يقف فعلاً خلف عملية لوكيربي… وغيرها. وفوق ذلك فإن العالم الغربي أيضاً ما زال يتشكك كثيراً في روايات اغتيال الرئيس جون كينيدي، ويكاد لا يصدق كل ما قيل في موت الأميرة ديانا، وقبل ذلك قصة انتحار الممثلة مارلين مونرو، أو اغتيال مارتن لوثر كينغ.
إن المصالح الأمنية للدول ربما تفرض عليها عدم الكشف عن جميع الوثائق حتى لو كانت خاضعة لحرية الاستعلام، وحتى لو انقضت الفترة الزمنية التي ينص عليها القانون. وهذا الأمر معروف ومبرر إلى حد ما. لكن، في عالمنا العربي، ما زلنا نرفع إلى مقام الوقائع النهائية روايات رائجة وغير صحيحة على الإطلاق ولا تستند إلى أي وثيقة تماماً، ولا يوجد أي برهان علمي على صحتها. فالعقل العربي، خصوصاً لدى بعض السياسيين والكُتّاب، ما زال مشغولاً بجمع الحقائق من غير أن يرتقي بها إلى مصاف الحقيقة. وهذه إحدى علامات التخلف في الفكر العربي المعاصر؛ أي أن التفكير لدى هؤلاء هو تفكير تجميعي وليس تفكيراً تحليلياً يقوم على البرهان، ويستند إلى الوثيقة، نصّاً أكانت أم نقشاً أم صورة. وعلى سبيل المثال، طالما رددت بعض الكتابات العربية أن إسرائيل نقشت على مبنى الكنيست الشعار التالي: "حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل". والحقيقة أن ذلك غير صحيح، فلا يوجد على مبنى الكنيست في القدس، ولم يكن محفوراً على مبنى الكنيست في تل أبيب، هذا الشعار البتة. إنها مجرد عبارة سارت على الألسن، وفشت في وسائل الإعلام العربية من غير تحقق أو يقين. وكانت إسرائيل كلما أطلق أحد الزعماء العرب تصريحاً يتضمن هذا الشعار تستدعي الصحافيين الأجانب لديها، وتدعو الملحقين الإعلاميين المعتمدين في السفارات الأجنبية، ثم تطوف بهم على مبنى الكنيست لتقول لهم: أنظروا، لا يوجد على مبنى الكنيست مثل هذا الشعار. أَرأيتم كيف يكذب الزعماء العرب؟ وأبعد من ذلك، فقد شاع في جميع الكتابات القومية العربية تقريباً أن هنري كامبل ـ بنرمان، وزير المستعمرات البريطاني، دعا في سنة 1907 إلى مؤتمر في لندن حضره مندوبون عن فرنسا وبلجيكا وهولندا والبرتغال واسبانيا، وخرج المؤتمرون بتقرير سري رُفع إلى وزارات المستعمرات في بلادهم، وهو يوصي بفصل الجزء الأفريقي عن الجزء الآسيوي من البلاد العربية بحاجز بشري قوي وغريب، أي اليهود.
إن هذا التقرير يظل مجرد خبر إذا لم يثبت، بالوثيقة الصحيحة، انه موجود بالفعل. وحتى اليوم يبدو أن هذا التقرير لا وجود حسياً له. وقد صرف الدكتور أنيس صايغ، حينما كان مديراً لمركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، أسابيع عدة في لندن في أواخر ستينيات القرن العشرين وهو يبحث عن نص هذا التقرير في المتحف البريطاني وفي مكتب الوثائق العامة، ولم يتوصل إلى أي نتيجة. ثم ذهب إلى كمبردج وعكف على التنقيب في أوراق هنري كامبل ـ بنرمان التي أودعها "كلية المسيح" فلم يعثر على أي أثر أو إشارة. ثم عاد إلى جريدة "التايمز" لسنة 1907، فلم يجد حتى خبراً واحداً عن هذا المؤتمر. وتبين، لاحقاً، أن هذا التقرير مجرد خبر شفهي مرسل لا أكثر ولا أقل. وكان المحامي الفلسطيني أنطون سليم كنعان ألقى محاضرة في مؤتمر المحامين في دمشق في 23/9/1957 دارت كلها على هذا المؤتمر. والحكاية هي أن أنطون كنعان كان مسافراً إلى أوروبا في أواخر أربعينيات القرن العشرين، وكان إلى جانبه في الطائرة، مصادفة، رجل هندي مجهول الاسم. ودار حديث بين الاثنين عن الحكم البريطاني في الهند وفلسطين. وقد أخبر الرجل الهندي المحامي كنعان أن مؤتمراً سرياً دعا إليه كامبل ـ بنرمان في سنة 1907، وأن هذا المؤتمر أصدر توصيات تنص كيت وكيت. والكلام كله كان شفهياً من غير أي مستند أو وثيقة. وبنى أنطون كنعان على هذه المحادثة الطائرة حكاية مؤتمر بنرمان وتوصياته "المشهورة"، ثم تناقلت الأقلام هذا الأمر حتى صار "واقعة" بدهية في الأدبيات السياسية العربية. وهذا دليل على خطر الشفاهية، وعلى التضليل غير المقصود حينما لا يستند المؤرخ إلى الوثائق الصحيحة.
وعلى هذا الغرار شاعت في الكتابات العربية قصة "إعلان بونابرت" الذي قيل انه أصدره في سنة 1799 بعد فرض الحصار على عكا، وفيه دعا جميع يهود آسيا وأفريقيا إلى الانضواء تحت لوائه لإعادة تأسيس أورشليم القديمة. إن "إعلان بونابرت" هذا غير موجود بتاتاً، ولا توجد أي وثيقة تقطع بصحته. وكل ما في الأمر ان المؤرخ الفرنسي اليهودي بول جيفنسكي عثر على خبر من خمسة سطور فقط في صحيفة "لا غازيت ناسيونال" (22/5/1799) يقول ما يلي: "أصدر بونابرت بياناً دعا فيه جميع يهود آسيا وأفريقيا إلى الانضمام إلى صفوفه وتحت رايته لاستعادة القدس القديمة. وقد أمدَّ بونابرت بالسلاح عدداً من اليهود الذين هددت كتائبهم حلب وضواحي دمشق من أمصار الباب العالي".
هذا هو الخبر بحذافيره. فكيف استخلص المؤرخون العرب ان بونابرت كان يرغب في إنشاء دولة يهودية في فلسطين؟ هاكم الجواب: نشر مؤرخ يهودي نمساوي يدعى فرانز كوبلر رسالة منسوبة إلى بونابرت في مجلة "نيو جيديا" اليهودية الصادرة في لندن في أيلول/سبتمبر 1940 باللغة الإنكليزية، وأدّعى كوبلر ان النص الإنكليزي مترجم عن نص ألماني سلّمه إياه صديقه المؤرخ الألماني فوغنر الذي زعم أنه ترجمه بنفسه عن الأصل الفرنسي، وأن الأصل الفرنسي للرسالة مفقود لأن الجيش الألماني عثر عليه مع وثائق أخرى كان يمتلكها فوغنر فصادرها وأحرقها، ولم يبقَ من هذا الإعلان أي أثر البتة.
إن "إعلان بونابرت" المزعوم لم يُعثّر على أي نسخة منه في الوثائق الفرنسية، أو في أي مكتبة أو متحف. وللتذكير فقط، فإن بونابرت كان معادياً لليهود، وهو الذي أصدر قرارات 30/5/1806 التي نصت بعض بنودها على التمييز العنصري ضدهم.
على هذا المنوال يدور كلام عتيق في الأشداق عن "بروتوكولات حكماء صهيون"، التي تُنسب، جهلاً، إلى المؤتمر الصهيوني الأول في سنة 1897. أما القصة الحقيقية للبروتوكولات فهي التالية: في سنة 1850 أصدر جاكوب فينيدي في برلين كتاباً متخيلاً عنوانه "محاورات بين مكيافيلي ومونتسكيو". وجاء كاتب يدعى موريس جولي (انتحر لاحقاً) ليستمد من هذه المحاورات أفكاراً نشرها في بروكسيل سنة 1864 في كتاب عنوانه "حوار في الجحيم". ثم أعاد جون راتكليف (اسمه الأصلي هيرمان جوديش) صوغ "حوار في الجحيم" في قصة خرافية عن اليهود نشرها في سنة 1868، وادّعى فيها أن حاخامات اليهود يعقدون مؤتمراً مرة في كل مئة سنة يتدارسون فيه أحداث المئة المنصرمة، ويضعون خطة للمئة المقبلة. وتبين في ما بعد أن المخابرات الروسية القيصرية هي التي صاغت "البروتوكولات" استناداً إلى خرافة جون راتكليف ورواية "حوار في الجحيم" بعدما حوّلت الحوار إلى مؤتمر للحكماء.

طمس وابتزاز
المأنوس في أجهزة الاستخبارات العربية أن أول ما يقوم به أي ضابط حينما يتولى رئاسة جهاز أمني هو سحب ملفه الشخصي من الأرشيف وإتلافه. فالقاعدة الأساسية هي الإتلاف وليس الحفظ. أما القاعدة الأخرى فهي أن الاستخبارات تراقب جميع الناس بمن فيهم ضباطهم الموثوقين. ولا ريب في أن سجلات الأجهزة الأمنية تزدحم بمعلومات لا يمكن تقدير قيمتها الحقيقية. لكن هذه المعلومات تدور، في معظمها، على الأشخاص والأحزاب، الأمر الذي يجعل قيمتها تتضاءل مع الزمن ولا سيما بعد وفاة أصحابها، إلا إذا كان بعض هؤلاء من الشخصيات اللامعة والمؤثرة، فتصبح سجلاتهم والحال هذه، ذات أهمية استثنائية. غير أن التجربة الواقعية تقدم صورة مأساوية عن العبث بالسجلات والأراشيف. فعندما انهار نظام الشاه في إيران سنة 1979 عمدت جهات شتى إلى إحراق السجلات الحكومية والاستخبارية كي تطمس علاقتها بـ"السافاك" على سبيل المثال. وفي العراق، حينما سقطت بغداد في 9/4/2003، استولت قوى سياسية معروفة على سجلات الأجهزة الأمنية. لكنها بدلاً من أن تحميها ثم تودعها لدى المحفوظات، استخدمت بعض الوثائق في ابتزاز قوى سياسية مناوئة لها. والأمر نفسه حدث في قطاع غزة في 14 حزيران/يونيو 2007.
إن إتلاف الوثائق وإحراق السجلات والمحفوظات الوطنية عند كل اضطراب في الأمن يبرهن، مرة أخرى، على أن مجتمعاتنا العربية ما زالت في طور البداوة الاجتماعية، أي أن عقلية السلب والنهب والتدمير ما زالت هي السائدة في السلوك الجمعي، ولم ترتقِ، حتى الآن، إلى مفهوم المواطن في دولة، أي الإيمان بأن هذه السجلات هي ثروة للأمة كلها، فلا يجوز التصرف بها أو إتلافها أو منعها عمن يجب أن يطلع عليها. وفي مقابل هذا السلوك البدائي والهمجي معاً، فإن السلطات العربية نفسها نادراً ما توخت السعي إلى تكوين السجلات بطريقة علمية. وكم ضاع من الوثائق والمعاهدات والاتفاقات، حتى أن كثيراً من المصالح العليا تضررت بقوة جراء هذا الضياع. وعلى سبيل المثل فقد كان الدافع إلى تأسيس "دار المحفوظات العمومية" في مصر سنة 1829 قيام بعض اللصوص بسرقة قصر محمد علي باشا في الأزبكية، وكان بين المسروقات "معاهدة لندن" التي وقعها محمد علي مع انكلترا. وبسبب عدم الاهتمام بالوثيقة وبالخريطة (وهي وثيقة فائقة القوة)، وعدم الاحتفاظ بمحاضر الاجتماعات مثلاً، فإن العديد من القضايا المهمة تصبح خاضعة للأخذ والرد والمماطلة، مثل قضية تعيين الحدود مع فلسطين المحتلة في منطقة مزارع شبعا في لبنان، ومثل تحديد خط الهدنة بين سوريا وإسرائيل، وكذلك خط الرابع من حزيران/يونيو 1967. ومن شأن عدم الدقة في مثل هذه الموضوعات الحيوية أن يهدد الأمن الاستراتيجي لسوريا بالتناثر هباء مثل الثروة المائية في جبل الشيخ، ومثل أحقية سوريا في بسط سيادتها على الشاطئ الشرقي لبحيرة طبرية.

تاريخنا في ملفاتهم
عندما اكتشف البرتغاليون طريق الهند صار الخليج العربي منطقة فائقة الحيوية، وازدادت أهميته التجارية، وبات عرضة لأطماع الدول الاستعمارية. وبالفعل، احتل البرتغاليون مضيق هرمز في سنة 1508. ومنذ ذلك التاريخ بدأ عصر التنافس على المنطقة التي تقلبت بين أيدي البرتغاليين والهولنديين والبريطانيين إلى أن دانت كلها تقريباً لبريطانيا منذ سنة 1616 حتى سنة 1971. وكان من النتائج المنطقية لذلك أن تاريخ الخليج العربي من المحال أن نجده إلا في أراشيف الدول الاستعمارية، وكذلك في الأرشيف العثماني الذي يحفل بالكثير من الوثائق عن الصراع البريطاني ـ الفارسي على المنطقة، وفي أرشيف شركة الهند الشرقية. وقصة هذه الشركة التي بدأت في بندر عباس، ثم انتقلت إلى البصرة، هي قصة الاستعمار البريطاني في المنطقة. فهي تأسست كشركة تجارية على أيدي مجموعة من التجار، ثم تحولت إلى شركة تجارية مسلحة تعمل تحت إمرة التاج البريطاني، ثم إلى شركة تجارية تقرر السياسات الكبرى في المنطقة الممتدة بين الهند والخليج.
من جانب آخر، تعتبر المخطوطات أرشيف التاريخ القديم. ومعظم المخطوطات العربية محفوظة في أوروبا. ففي المكتبة الوطنية في باريس وحدها سبعة آلاف مخطوط عربي. وللمقارنة فحسب، فإن أقدم مركز عربي للمحفوظات هو "المركز القومي للإعلام والتوثيق" في مصر الذي أُسس في سنة 1955. بينما أول أرشيف كنسي في العالم ظهر في الفاتيكان في أوائل القرن السابع عشر وهو أرشيف البابا بولس الخامس. وأول أرشيف علمي هو الأرشيف الوطني الفرنسي في سنة 1790. وأُسست دار الوثائق البريطانية في سنة 1837، ثم ظهرت جمعية الوثائق البريطانية في سنة 1888.
إن أقوى وثائق التاريخ هي الآثار والنقوش. ومع الأسف، فإن جزءاً مهماً من الآثار والنقوش في البلاد العربية أمسى في متاحف أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. لكن الأنكى أن الكثير من قصور المتسلطين والأثرياء تحتوي أعداداً غير محددة من الآثار التي استخدمت في زينة هذه القصور، الأمر الذي جعل قيمتها العلمية معدومة. حتى اللوحة القديمة تعتبر وثيقة تاريخية، وهي ملك للمجتمع، ويجب ألا تكون احتكاراً خاصاً بالأفراد. فكثير من مدن فلسطين مثلاً، كالناصرة وبيت لحم والقدس، أمكن التعرف إلى معالمها المندثرة من خلال رسوم الحجاج والرحالة والرسامين المتجولين والمستكشفين والمستشرقين.
إن الوثيقة، نصاً أكانت أم نقشاً أم لوحة، لا يمكنها أن تخبرنا أكثر مما يريده واضع "الوثيقة". أي أنها تتضمن الوقائع وحدها أو المشهد منفرداً، وهذا شأن فائق الأهمية. غير ان الفائدة منها لا تكتمل إلا بوجود المؤرخ الذي يعيد التقويم ويقدم التفسير والتعليل. لأننا إذا تركنا الحليب يغلي فوق النار فإنه سيفور خارج الإناء، وليس على الإنسان الفرد أن يعرف لماذا يفور الحليب. أما العالم، فهذه هي مهمته، أي أن يفسر لماذا يحدث ذلك. ومع الأسف فإن السلطات العربية، في معظمها، بتدميرها الوثائق، تجعل مهمة المؤرخ عسيرة، وتجعل المعرفة، في نهاية المطاف، مجزوءة. وحتى لو أمكن استصدار قوانين تتيح للفرد العربي حرية الاستعلام، وتلزم المؤسسات كشف وثائقها بعد أربعين أو خمسين سنة مثلاً، فما الذي يضمن أن تكون الوثائق المتاحة في رأس كل فترة، ناقصة، وأن ما جرى إخفاؤه هو الجزء الأكثر أهمية؟

 

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى