الأسطورة والتاريخ في فضاء واقعي| تقنيات الكتابة في رواية “توجان” لآمنة الرميلي
تعتبر التقنيات التي يتبعها الكتاب في رواياتهم وأعمالهم الأدبية، بصورة عامة، علامات مهمة على طبيعة الكتابة والرسائل التي تريد الكتابة إيصالها، كذلك على ميول الكتاب ومرجعياتهم الأدبية والفكرية. وقد شغلت هذه التقنيات نقاد الأدب فدرسوها وبحثوا في دلالاتها في شتى الثقافات، ولم يشذ نقاد الأدب العرب عن غيرهم من النقاد الذين درسوا النصوص الأدبية في شتى اللغات، فقد شكلت التقنيات الأدبية والفنية مادة مهمة للبحث.
كثيرة تلك التقنيات الروائية التي استخدمتها آمنة الرميلي في روايتها «توجان»، فرغم أنها استخدمت الراوي بالضميرِ الشخصي، وكأننا إزاء حالة من حالات السرد الذاتي، أو السيرة الذاتية، لوقائع تحاول أن تتضافر لتسبك من نفسها إقناعا خاصا للقارئ بحيث يشعر وكأنّه يستعرض أحداثا واقعية جرت بالفعل، إلا أننا رغم ذلك نستشعر قدرا من تماهي الراوي مع المؤلف، وكأننا وفق ما يقول رولان بارت إزاء حالة من حالات إحالة الوعي المادي لشخصيات الرواية إلى وعي المؤلفة ورغبتها في تَقديمِ واقِعٍ معين تصبح الشخصيات أسيرة محدداته وأسيرة مكونات هذا الواقع المختلف، الواقع الذي قوامه العطش وبيئته الصحراوية القاسية تفرض على من يعيشون فيه غلظةً وشدةً، وتُصبِحُ المياه هي الحياة، بكل معاني الحياة، فمن يمتلكها أو استطاع إليها سبيلاً قادرٌ على العَيشِ وعلى التفاخر والتباهي، ومن لا يستطيع أن يوفر احتياجاته من المياه، هو في أزمة حقيقية في مواجهة الواقع، ومن ثم يصبح لا بديل ولا مناص عن مواجهة الطرف الآخر الذي يمتلك المياه، ومحاولة الحصول منه على المياه نبع الحياة والضرورة التي لا بد منها.
غير أن البناء الميلودرامي للقصّة يجعل الأمر يتخذ أبعاداً متشعبة، فالأمر ليس بهذا القدر من الوضوح، فمحاولة التعبير الجمالي عن التناحر بين فئتين أو «عرشين» كما اختارت أن تسميهما الكاتبة، لا تتم بهذه الصورة المباشرة، وإنما الطريف أن تأتي المواجهة- أو بمعنى أدق يكون سبب المواجهة- عاشقا اسمه «سلطان» من عرش بني الغزال، ضد محبوبته «صحراء» من عرش بني الأحمر، ورغم التناحرِ بين العرشين، فإنّ حبا ما قد جمعهما، ورغم معرفتهما مسبقا باستحالة تحقُّقِ هذا الحب وتحوله إلى زواج، إلا أن نهايته الدرامية جاءت على يد «سلطان» وهو واقع تحت تأثير العطش واقتراب والده من الهلاك دون وجود المياه لديه، ليقتحم منزل محبوبته «صحراء» ليهتك السر الذي استأمنته عليه، ويكشف للناس جميعهم بأن منزلهم يفيض به الماء، حتى أن بِهِ بركةٌ تستحم فيها محبوبته، وجاء وقت اقتحام منزلها وهي عارية في المياه، ليسرع أحدهم بإلقاء شيء ما على جسدها ليسترها، ويحملها أخوها ليدخل بها إلى المنزل وهي تكرر جملة واحدة: «غدرت بي يا سلطان».
بهذا القدر من المفارقةِ بينَ الواقع والمحب والمحبوبة وظروف الحياة، يأتي تشفير رواية «توجان» لكن الشفرة لا تعمل عند هذا المستوى البسيط، وما ذكرته سابقا هو تحليل مبدئي للحبكة يتجه مباشرة لقلب الأحداث، لكنّ ما يحقق المتعة في قراءة أي عمل أدبي هو «الكيفية» التي جاءت بها الحكاية، طريقة تقديم الأحداث، العتبات التي نمر عليها حتى نصل إلى الختام في الصفحة النهائية.
ومن العتبات المهمّة التي أوردتها الكاتبة استئذان الراوي/سلطان في أن يحكي القصة، يقول «قررت، بعد إذنك يا صحراء أو دون إذن منك، أن أحكي، أنا سلطان ولد الغزال، هذه الحكاية، أن أقولها كما أحب أن أقولها، أن أنشرها للرياح تفعل بها ما تشاء»، ولعلنا نلاحظ أن الكاتبة تلجأ إلى الرمزية بشكل مكثف، وأنها طوال الوقت تلجأ إلى الرمز سواءٌ أكانَ هذا اللجوء عبر الأحداث التي هي رمزٌ لأشياءَ أخرى، أو عبر الشخصيات، أو حتى عبر الحكاية ذاتها، فالحكايةُ والقصةُ أو الأسطورةُ أو أيَّا ما يُمكِنُ أن نُطلِقهُ من تسميات على ما يتوارثَهُ ويقولُهُ الآباءُ للأبناء والأجداد للأحفاد – السرديات الكبرى مثلا – أو حتى التراث “إن أردنا مسمى قد يعترض عليه البعض!”، فإنّ فعل الحَكي وفعلَ القَصِّ ذاتَهُ يتخذ رمزية، إنه سر البقاء والسر الذي يعتمد عليه التوجانيون في تقييم الأحداث والنظر إلى الأمور، يظهر ذلك عندما يقول الراوي «أضيف هذه الحكاية إلى حكايات توجان التي لا عد لها ولا عدد، أن أرمي بها في ذاك النبع الهائل الذي تتوالد منه القصصُ وتتناسلُ منه الحكايات لتستقر في قلوب التوجانيين وتبقى وتتمدد وتبسط سلطتها الجبارة».((
ففعل الحكي نفسه رمز لما يؤثر على إدراكِ ووعي التوجانيين، الذين هم أنفسهم رمز للأمة العربية بأكملها، أو للمهمشين من بني البشر بوجه عام، أو غيرها من الرموز، فمن يمكنه أن يصدر حكما مطلقا على معنى الرمزية فكل التأويلات مفتوحة، فالكاتبة ترمز في روايتها للمركزية التراثية التي تؤثر على إدراك العرب – ربما، وللعداوة بين بني الغزال وبني الأحمر الذين ينتسبون إلى جد واحد هو فارح الغزال، ثم مع الوقت ينقسمون إلى قسمين أو إلى عرشين «الغزال» و«الأحمر»، «هل هي أيضا رمزية للسنة والشيعة»؟ – خاصة مع تكرارِ التأكيد على تناسُلِ الحِكاية واختلاف الرؤية بين الفريقين لجدة «صحراء» وجدة «سلطان» في الوقتِ ذاتِه حول النظر لجدتها السادسة «عائشة» المباركة، ربما أيضا لكن دون تأكيد، لكنَّ تداعي الأسماء يستدعي هذا التشابه، فهما كثيرا ما يختلفان حولَ حقيقةِ وكُنهِ جدتهما «عائشة» فـ«صحراء» تراها مباركة بينما «سلطان» يراها محبة للرجال، وهكذا تدور الرمزيات في هذه الرواية بشكل يستلهم الواقع العربي المعيش في تلامس مع مشكلات العرب وعدم قدرتهم على التوحّد معا.
أضف إلى ذلك أن «بني الأحمر» استطاعوا منذ القدم أن يخدعوا «بني الغزال» ويستولوا- دونَ أن يشعُرَ أحد- على النبع الأهمِّ من المياه- بتحويلهِ من مَجرى الجبل ومن عند صخرة النسر – لاحظ التأثر بتحويل أماكن الصحراء إلى أسطورةٍ، وهو ما يذكرنا كثيراً بـ«إبراهيم الكوني» ويستدعي فضاءاته، إلى منزل «صحراء»، وعندما تقع في عشق «سلطان» وتخبره بسرهم حول الماء المحوَّل من الصخرة ومن الجبل إلى منزلهم ينعمون فيه بمفردهم دون باقي بني الأحمر ربما، لكن دون باقي بني الغزال بالتأكيد، لم يتحمل «سلطان» الأمر ولم يستطع التصالح مع هذا الموضوع، ليهتك سر حبيبته، ويكتب الشقاء الأبدي على نفسه، ويتحول إلى شخصية تراجيدية تجيد تعذيب ذاتها بذاتها، فيأتي القرار بالفرار والهرب من هذه الصحراء ومن محبوبته أيضا «صحراء» إلى النقيض تماما، إلى بلاد الجليد والأنهار الفائضة والأمطار الغزيرة والشلالات والبَرَد.. إلى كندا.
لا أعلم لماذا اختارت الكاتبة أن تجعلَ بطلَهَا يفر إلى كندا تحديداً، ما الرمزية التي تحملها كندا دون باقي الدول، إلا إذا كان المقصدُ هو أنها ترمزُ إلى الغربِ– لكنه هنا غربٌ دونِ استعمار– لتصبِحَ دائِماً المقارنَةُ بين فضاءيْ السرد على النحو التالي: «في شوارع المدن الكندية المسطحة أستحضر أودية توجان والالتواءات الثعبانية الضخمة، تسعى حول الجبل وتزحف عبر أراضي هذا العرش أو ذاك، من وادي الرمل الرهيب الذي شقه جدي الفارح الغزال بالطول حتى نبتت صخرة توان، تقطر بالسائل الحي أمام عينيه المتوهجتين بالعطش والقحط والفناء، إلى أصغر تفريع عن أصغر شق مائي في أرض توجان» ص 255-256.
الحديثُ عن المقارنة بين النظام والفوضى ربما، لكن الحديث عن الغربة أكيد، عمّن تضطره الظروف إلى العيش خارِج وطنه كمنفي، أو حتى من حكمت عليه الظروف بأن يخرج دونِ أمل في العودة أو الرجوع، تقول الكاتبة على لسان راويها «الغربة كذبة كبيرة، لا أحد يخرج من وطنه يقول فهد، نأخذ الوطن فينا ونسافر، الوطن هنا وهنا، يقول وهو يوجه سبابته الطويلة وإبهامه المعقوف على شكل مسدس إلى رأسه ثم قلبه، الوطن هنا وهنا يا توجاني فلم البكاء؟» ص 264.
ورغم أن هذِه الكلمات تحمل معنى عميقا في الإخلاص والولاء للوطن، إلا أن الكاتبة تستغل الموقف لتعرض وجهةَ نظرٍ أخرى، تقدِّمُها على لسان إحدى شَخصياتِ روايتها «فهد» من حلب؛ فتقول «اقتل الوطن فيك كما فعلت منذ انسلخت من حلب وطرت هائما على وجهي هربا من بدلةِ العسكر الرابضة على ضلوعي مذ خلقني الرب، يشير فهد مليا بسبابته وإبهامه المعقوفة: طاف! طاف! مات الوطن! طلقة في رأسه وطلقة في قلبه، تجلجل ضحكته، خلصنا! ذهب الوطن إلى الجحيم» ص 264.
لكن «سلطان» حالة مختلفة عن «فهد» فهو المخلص لوطنه «توجان» ومحبوبته «صحراء» رغم أنه فعليا قد «غدر بها» عندما كان في بلدته، إلا أنه يحمل لهما الإخلاص والحلم بالخلاص أيضا وهو في المنفى الكندي، عشرون عاما يصدر كلّ عام ديوانا عن صحرائه – محبوبته/ وطنه – يكرس جهده لحل مشكلة المياه، لمشروع متكامل يستفيد من العلم الغربي يقومُ على إنشاءِ شبكةٍ من الآبارِ أسفَلَ «توجان» تحميهَا من العطش، وتمنعُ التناحرَ بينَ أبنائها، العلم الغربي وما تلقاه «سلطان» من دراسة في الهندسة سيوقفان الصراع، وربما يعيداه من جديد بطلا في عين محبوبتِه.
لم تكن الرواية بعيدة عن الهمّ النسوي، ففي داخل ثناياها الكثيرة، وتفاصيلها العديدة تشير إلى معاناة المرأةِ في المجتمعات العربية، وأيضا بقدرٍ من الرمزيةِ الكبيرةِ ترسُمُ شخصية «صابرة الحمراء» – لاحظ تسميتها بصابرة، فهي لقيطة، وجدوها ذات يوم في جوفِ بئر، وسمات الخطيئة بملامحها البيضاء وعينيها الزرقاوين تشيرُ إلى «ماريو» الرومي، الرجل الأجنبي الذي مرّ من قبل بتوجان حتى يبحث في كنوزِها، ثم اختفى فجأة ليترك بصمته في توجان بفتاة تحمل صفات الرجل الأوروبي من زرقة العينين، وبياضِ البشرة، لتكون فتاة تعرف أبيها ولا تعرف أمها، وهي صورة عجيبة ترسمها الكاتبة، وتعرج في ثنايا روايتها لما تتعرض له هذه الفتاة التي تستطيع مع الوقت أن تكون قوية، وأن تصبح ذات شأن ويخشاها الجميع وتحتفظ في الآن ذاته بأسرارِ العديد من الرجال والنساء من الجانبين، من العرشين «بني الغزال» و«بني الأحمر».
تدور مسارات الحكي في الوقت الذي يعود فيه «سلطان» من كندا إلى توجان بعد غربة عشرين عاما، وبينما هو يمضي في السيارة إلى توجان، وقد انتصبت أمامه محبوبته القديمة «صحراء» فوق الصخرة الأسطورية «صخرة النسر» تلك الصخرة التي تحمل العطش والرواء في الوقت ذاتِه حسبَ مراحلها التاريخية، وتدنو به السيارة إلى اللقاء الذي يرتاب منه، ويخشاه كثيرا، ولا يعرف كيف سيرد أو كيف سيواجه عيني محبوبته «صحراء» بعد كل هذه الفترة، في ثنايا هذا التقدم الدافق رويدا رويدا باتجاه الأسطورة المتمثلة في الصخرة، ومحبوبته التي غدر بها وتقف له الآن منتصبة على قمة هذه الصخرة.
وبين هذين المعنيين الرمزيين، وهو الذي اختار بنفسه ألا يستمر في الغربة ويعود لكي يحاول أن يفعل شيئا ما لتوجان، شيئا ما لــ«صحراء» محبوبته، كأن بنا نستمِعُ طوالَ الوقتِ لارتِجافِ قلبِه من هذه اللحظة وهذا اللقاء، وفي ثنايا هذا الارتجاف تذهبُ بِنا الحكاية إلى الوراء، لتعود بنا إلى عوالم سابقة، عوالم ما قبل «سلطان» و«صحراء»، ومرات عديدة يربط فيها الحب بين رجل من بني الغزال، وفتاة من بني الأحمر.
ثم تقف الخلافات بين العرشين دون إمكانيةِ الزواج، حتى انتهى الأمر بـ«حيزية» من بني الأحمر، و«صالح» من بني الغزال، وفي يوم الزفاف لـ«صالح» تذهب «حيزية» لتلقي بنفسها في عين «عائشة» في طقسٍ انتحاريٍّ تودِّعُ به الدنيا، والظلم الذي حال دون أن تتمكن هي وحبيبها من التواصل معاً، من اللقاء والزواج، لينفطر قلبُ كلٍ منهما، وفي غمرة هذا الانتحار يأتي ما لا تحمد عقباه، فتجف المياه، وتدخل «توجان» حالةً من الجفاف والعطش، وكأن العطش عقابٌ على التنافر والتناحر بين العرشين وبين الفريقين.
تأتي نهاية الرواية تراجيدية مفجعة، على خلاف المتوقع تماماً، وعلى خلاف ما قد نعول عليه من آمال يحاول الراوي – «سلطان» أن يودعها في نفوسنا، فبينما كان يُمنّي النفس بهذا اللقاء وبأنهُ يمكن أن يكون هناك حلٌ لهذا الخلاف القديم، لهذه الأوجاع التي استُلهِمَت وأوجعت الروحَ والنفسَ طوالَ عشرينَ عاماً قضاها منفياً أو هارباً في كندا، ها هو يعود من جديد بخطة لتوفير المياه لمدينته العطشى، ويعود لمحبوبته وقد كتب فيها عشرين ديوانا.
ولم تنجح محاولات «الكنديات» التي كانت «أنجريد» أكثرهنَّ صبرا على تحمُّلِ هيامهِ بـ«صحراء»، فقد تمكنت من أن تعرف مقدار عمق تغلغل «صحراء» في قلبه، وفي كيانه، لترحل في النهاية من حياته بعد محاولاتٍ مستميتةٍ ارتضت فيها بأقل القليل منه، لكنه لم يستطع أن يوجد لنساء المنفى اللواتي تقاطعت مساراتهن معه، أيَّ مكانٍ فارغ في مشاعره وفي قلبه، ففجيعتُهُ استولَت عليه، ولم يكن باليسير التخلص منها.
ومن الفجيعة إلى الفجيعة مرة أخرى، وكأن القَدَر المنتظر لكل شخصيات هذه الرواية هو استمرارُ المعاناة، أو بمعنى آخر، القدرُ المنتظَرُ لكل من يسكن في هذه المنطقة التي تدور من حولها الأحداث – توجان – والتي تؤمن بذات السرديات الكبرى، والميراثات الحكائية، وتصنع لنفسها ذات القيم، وذات الاختلافات وذات الانقسامات وذات الصراعات بين المتناحرين، ينتظرهم ذات المصير، إما أن يقتلوا الوطن بداخلهم كما قال فهد، ليسجنوا أنفسهم في سجن الغربةِ المبهر بالملذات وشدة النظام، وإما أن يعودوا ليواجهوا المزيد من القهر المصيري الذي لا قبل لأبطال الروايات بأن يحدثوا فيه أي تغيير حقيقي.
المشهد الختامي للرواية جاء ضاربا في الألم، ضاربا في تأكيد صيرورة المعاناة، يقول “سلطان” «وها أنا واقف يهرسني العجز والقهر وأشياء كثيرة لا أعرف أسماءها ولكنها مدببة وكاوية، تخترق جلدي ودماغي في آن، ووجهك في وجهي، ويدك ممدودة من فوق الصخرة تنتظر من يلتقطها، والأخرى تضرب في ظلام ترينه ولا أراه.. وحدقتاك الواسعتان يلمع في غوريهما شيء من البياض الشفيف يغطي سوادهما المعهود، ها أنا أقف أمامك على أرض توجان بعد عشرين عاما من الغيبة (…) تنادين سلطانا ليس أنا! وأنظر نحو الروح والقلب والعقل إلى صحراء لا تشبهك!» ص 341-342.
بينما هرب “سلطان” إلى كندا في مواجهة مأساته، ليتناسى ويؤسِّي نفسَهُ في بارات المنفى، وبين نسائها، كانت «صحراء» الفتاة في مواجهة الفضيحة والعار، ورغم ذلك حاولت قدر جهدها أن توحد بين التوجانين وأن توجد قسمة عادلة للماء بينهما، وفي غمارِ حزنها ومواجهاتها ابيضّت عيناها من الحزن، عيناها السوداوان الواسعتان اللتان كتب فيهما «سلطان» عشرين ديوانا، واللتان كانتا موضع افتتانه الدائم بها، ابيضتا من الحزن، وأصبحتا لا تبصر «صحراء» بهما، وبينما تقابله بلهفتها وعشقها الطويل، وتمد له يدها وعيناها ضاربتانِ في البياض تعيش في عتمة لا تراها إلا هي كما يقول، يجد نفسه عاجزا عن أن يمد يده إليها، غارقا في حزنه الذي لا يشعر به إلا هو أيضا، في غمرة شعورٍ عميق من العجز العميق الذي جعله يرى الصورة النهائية: لا هو «سلطان» الذي كان، ولا هي «صحراء» التي كانت، ولا هما معا قادرين على أن يوجدا لنفسيهما واقعا أو مستقبلا جديدا.
مجلة الجديد اللندنية