كتب

الأشياء تتداعى

الأشياء تتداعى…ناقشت الرواية قضايا متعدّدة وعالقة، ويمكن أن نذكر القضايا المتعلقة بالصراع الأيديولوجيّ والسياسي للمجتمع الأفريقي، والقضايا الثقافيّة والجندريّة واللغويّة، وتداعيات الاستعمار على الثقافة الأفريقيّة.. وتعدّ هذه الرواية من أبرز روايات ما بعد الاستعمار، وهي رواية أفريقية تتحدث عن المجتمع الأفريقي وثقافته، وتسعى إلى تجاوز التصوير الاستعماري عن قارة أفريقيا بوصفها عالما متوحشا متخلّفا ليست له لغة ولا ثقافة ولا تاريخ يربطه ببيئته. وسوف نتتبّع القضايا الأبرز في الرواية بقدر الإمكان مستخدمين المنهج الوصفي التحليلي.

تحكي القصة عن ثقافة على حافة التغيير، وتتعاطى رواية “الأشياء تتداعى” للكاتب النيجيريّ شينوا أتشيبي مع مدى احتمالية وحقيقة التغيير التي تؤثر في شخصيات متعدّدة ومتنوعة، وغالبا ما يأتي التوتر حول ما إذا كان التغيير يحظى بامتياز، وكذلك إذا كان يطرح تساؤلاتٍ حول مكانة الأشخاص في ثقافة معيّنة، ولذلك يقاوم أوكونكو – مثلا- الأيديولوجيا الجديدة والأوامر الدينيّة لأنّه يشعر بأنّها لا تكون رجوليّة وأنّه بذاته لن يكون متمتّعا برجوليّته إذا وافق على الانضمام إليها وتسامح معها. اقتضت إلى حدّ ما مخاوفُ أوكونكو في فقدان مكانته الاجتماعيّة التصدي أمام التغيير الثقافيّ ومقاومته، وشعورُ قيمته الذاتيّة مرتبطةٌ بالمقاييس التقليّدية التي يتمتع بها وبموجبها يقيّمه المجتمع.

دفعت الأيديولوجيا الجديدة القائمة على التقييم الذاتي الكثيرَ من منبوذي العشيرة لاعتناق المسيحيّة، وبازدراء طويل يجد المنبوذون في نظام القيم المسيحيّة مأوًى لهم من نظام القيم الثقافيّة لإيبو الذي نظر إليهم بعين الازدراء، وفي المقابل يتمتع المعتنقون في مجتمعهم الجديد بمزيد من المكانة العالية. وأمّا القرويّون فيتذبذبون بين معتنق ومقبل على الأيدولوجيا الجديدة والتغيير ومتصدّ أمامه، ويواجهون معضلة محاولة البحث عن أفضل الطريقة لاحتضان الحقيقة وقبول ضرورة التغيير، ويتحمسون للفرص الجديدة والتقنيات التي يجلبها المبشرون.

وعلى كل الأحوال يهدّد هذا التغيير والتأثير الأوروبي الحاجة إلى الثقافة الماديّة والإعمار التقليدي والطبخ الثقافي وإتقان المناهج التقليدية لزراعة وحصاد أغذيتهم الأساسية كاليام والكسافا والقلقاس. إضافة إلى المحاصيل الأخرى التي يزرعونها كالذرة والبطيخ والبامية والقرع والفول. وتُعتبر هذه المناهج التقليدية غير ضرورية نسبة لتأثر أصحاب أوموفيا بهذا التغيير، وكانت تلك المناهج مرهونة ببقاء مجموعة على قيد الحياة، ولكنّها يمكن الاستغناء عنها بدرجات متفاوتة بتداعي بنيتهم الثقافية.

ويحاول أشيبي التوضيح في جميع زوايا الرواية أهمية الثقافة واعتمادها على سرد القصص واللغة، وبالتالي وضّح سرعة تخلى الإيبو عن لغتهم لصالح الإنجليزية مما يؤدّي إلى استئصال تلك الثقافة والمناهج التقليدية الخاصة بهم.

التفسيرات المختلفة للرجولة

شكّلت علاقة أكونكو بوالده الراحل الكثير من تصرفاته العنيفة وطموحه الذي يدفعه إلى تجاوز إرث أبيه المتمثل في التبذير والتصرف الكسول الذي يعتبره علامة للضعف والأنوثة. يبدأ انفصام أوكونكو عن والده أونوكا باعتباره غير محارب، ولم يتميز بصفة الرجولة بأيّ طريقة أو بأخرى، لأن أونوكا كان يفضّل الشراب واستماع الموسيقى مع الأصدقاء. ولذلك ليس غريبا لرجل بطريركيّة مثل أوكونكو أن يعتبر والده جبانًا أنثويا، لأنّ تلك المنظومة الثقافيّة متجذرة في لغتهم.

كما عاب أونكوكو على والده، فإنّه يعيب ابنه أنووي أيضا على القواسم المشتركة مع جده أونوكا، خصوصا في عدم اهتمامه بالحرب وحبه لقصص أمّه التي غالبا ما تكون قصصا نسائيّة ولا تساعده في تكوين شخصيّته الرجوليّة.

وذكر السارد أنّ كلمة أغبالا – والتي تعني المرأة – تُعطى للذين لم يأخذوا ألقابا رفيعة تدل على الهيبة والكرامة. ولكن فكرة أوكونكو عن الرجولة تختلف عن فكرة القبيلة لأنّها تنم عن العنف والعدوان، ويرى أيضا أنّ الغضب هو الشعور الوحيد الذي يجب إظهاره؛ ولذلك يضرب دائما زوجاته من حين إلى آخر، ولا يبالي بشيء ويتصرف بطيش واندفاع.

وبجانب ذلك نرى آخرين لا علاقة لهم بالأنوثة يخالفون أوكونكو في فكرته القائمة على العنف ولا يتصرفون بتصرفاته، بخلاف أوكونكو، كان صديقه أوبريكا يبالي بالأشياء ويفكر في عاقبة الأمر عندما رفض أن يرافقه مع الرجال في رحلة قتل إيكيميفونا، ولم يتطوع أوكونكو فقط الانضمام إلى الجماعة التي ستَعدم إيكيميفونا، ولكنّه طعنه بعنف بسيفه مجرد هروبه من إظهار علامة الضعف عليه واتهامه بالخوف الذي يرمز إلى الأنوثة.

يعزّز أوكونكو في سنوات المنفى فكرته القائمة على أنّ الرجل أقوى من المرأة بالرغم من أنّه يعيش في أرض أمّه مع أقاربه من جهة الأمّ، ولكنه يستاء من الفترة بكاملها، ويكون المنفى فرصة له ليشعر جانبه الأنثويّ ويمسّه ويعتزّ بأسلاف الأمهات، ولكنه يستمرّ في تذكير نفسه بأنّ أقارب أمّه ليسوا من محبّي الحرب ولا من أصحاب إقدام فيه كما كان أصحاب أوموفيا.

يعيبهم على تحلّيهم بحب السلم وتفضيلهم التفاوض على الحرب وعدم إراقة الدماء، وفقا لفهم أوكونكو يجسّد عمه أتشيندو المسالم هذا الوضع، والذي اتّصف بالأنوثة بحبه السلامة وتجنبه عن الغضب.

سلطة الرجل على جسد المرأة

بما أنّ الرواية لم تتطرق إلى الجنس كثيرا إلّا أنّنا نجد أنّ المرأة جسد حُصر دورها في حفلات الزفاف، وفي الأدوار المنزليّة وفي تناوبات الضرب، والأخطاء التي يرتكبها أوكونكو في حقّ زوجاته. ويجسّد هذا المشهد أنّ الثقافة الأفريقية – كسائر الثقافات البشرية – قد تمادت في تهميش المرأة، وأجازت تحديد الأدوار والفروقات في السلوكيات، والتعبير عن الفرق بين المرأة والرجل، بحيث أصبحت القيمة المجتمعية لكلّ الأدوار التي يقوم بها الرجل، هي في مكانة عالية وسلطوية، في حين أنّ الأدوار التي تقوم بها المرأة أعطت قيمة دونيّة ولا تلعب المرأة دورا مهما في أوساط المجتمع كالتي يعلبها الرجل.

وجسّد أتشيبي في رواياته أنّ جسد المرأة يأخذه الرجل بأبسط الطرق والحيل، ويتحدّث على سبيل المثال عن إيكويفي زوجة أوكونكو الثانية التي تزوجت أنيني لأنّ أوكونكو كان فقيرا في ذلك الوقت، ولكنّها لم تعد تعيش مع أنيني وهربت إلى أوكونكو. يقول السارد في الفصل الحادي عشر “كان هذا في الصباح الباكر والقمر يلمع، دخلت بيت أوكونكو وقرعت بابه، فخرج هو وأخذها دون كلام، لأنهّ لم يكن رجلا كثير الكلام، فحملها ببساطة إلى سريره وبدأ يتلذّذ بخاصرتها وما حولها بعد خلع ثيابها الفضفاض”. وهذا يعدّ شكلاً من أشكال سلطة الرجل على جسد المرأة، وامتدادًا للإرث الثقافيّ للمجتمعات ذات البنيّة الذكوريّة، والتي تعتبر أن جسد المرأة ليس ملكاً لها وخاضع لسلطة الرجل، وكأنّه خُلق لإرضاء الثقافة الذكورية.

اللغة كعلامة للتنوع الثقافي

اللغة سمة مهمة في جوانب عدّة في رواية “الأشياء تتداعى”، ولإظهار اللغة الرسمية المتخيّلة لإيبو يؤكد أتشيبي أنّ أفريقيا ليست قارة صامتة وغير مفهومة كما تُصورها رواية “قلب الظلام” لجوزيف كونراد. ومع ترصيع الرواية وتوشيحها بلغة الإيبو يوضّح أتشيبي أنّ لغة الإيبو معقدّة للغاية ولا يمكن ترجمتها مباشرة إلى الإنجليزية. وبنفس الوقت لا يمكن فهم ثقافة الإيبو في إطار القيم الاستعمارية الأوروبية، ويشير أيضا إلى أنّ أفريقيا تملك لغات مختلفة وأنّ أصحاب أوموفيا يضحكون على لهجة مترجم السيد براون لأنّ لغته تختلف قليلا عن لغتهم.

اختار أتشيبي اللغة الإنجليزية بدقة بالغة الأهمية لكتابة روايته “الأشياء تتداعى” ليقرأها الغربُ على الأقلّ إن لم تكن قراءتهم أكثر من زملائه النيجريين. وكان قصدُه نقدَ وتصحيح صورة أفريقيا التي رسمتها كتابات فترة الاستعمار، ويتطلب ذلك استخدام اللغة الإنجليزية لغة المستعمر، ومن خلال إدراجه في الرواية الأمثال والحكايات الشعبية والأغاني المترجمة من لغة الإيبو، تمكّن أتشيبي من تصوير الإيقاعات والتراكيب والنبرات والنغمات وجمال لغة الإيبو ونقلها إلى العالم.

سيميائية الطبل

تلعب الطبول دورا مهما في قرية أوموفيا، ويؤكد أتشيبي قدرة الطبول علي التحميس و التواصل الثقافيّ في سياق الاحتفالات، وغالبا ما تشير الطبول إلى بدء الاحتفال، ويرمز على سبيل المثال قرعُ الطبول المستمرّ إلى ذكرى المصارعة السنويّة لأوموفيا، ويملأ صوت المحتفلين كامل القرية ولم تعد أصواتهم منفصلة عن القرية وكأنّها نبض قلبها. ويوضّح السارد أنّ الطبول تتحدث بلغتها الخاصة التي لا يفهمها إلّا أصحاب أوموفيا التي تعلّموها في حياتهم المبكرة.

وحاول السارد ترميز لغة الطبل فوناتيكيّا: جو دي دي جو جو دي جو. دي جو جو دي جو. كان هذا صوت طبل إيكوي مخاطبا أصحاب القرية، وقد وظّف السارد قدرته السردية في سيميائية الطبل ودويّ صوت المدفع دي جو جو دي جو دي دي جو جو الذي يدل على أنّ شخصا ما قد توفي.

ومن خلال ترميز السارد في الفصل الثالث عشر سيميائية الطبل وصوت المدفع ولحن المزامير الخشبيّة – ديـــم! ديــــم! – حاول إبراز سيميائية التواصل في تلك الآلات في الرواية تماما كاعتماده اللغتين الإنجليزية ولغة الإيبو.

إبعاد ذات السارد عن الرواية

تتضمن البحوث الإثنوغرافية تفسيرًا شخصيًا، وقد يكون من الصعب الابتعاد عن المسافة اللازمة لتحليل المجموعة التي يقوم الباحث بدراستها. وفي جوانب عدّة في الرواية يبدو السارد الذي انغمس كثيرا في ثقافة الإيبو يأخذ خطوة إلى الوراء للابتعاد عن عالم إيبو وليقدّم للقارئ كثيرا عنه. على سبيل المثال عندما تنادي زوجةُ أوكونكو الأولى زوجتَه الثانية إيكويفي في الفصل الخامس “نادى صوت من أحد الأكواخ ‘إيكويفي’. ردّت إيكويفي ‘هل يعنيني أنا؟’،”. ربّما هذا الردّ يبدوا غريبا وغير مألوف لغير المتحدثين بلغة الإيبو. ولذلك يفكّ السارد شفرة ثقافة إيبو من خلال ردّ إيكويفي قائلا “هذه هي الطريقة التي يردّ فيها الناس على النداءات الصادرة من الخارج، ولا يردّون بنعم خوفا من أن يكون المنادي روحا شريرا. لأن عالم إيبو مليء بالأرواح التي تصاحبها النوايا الشريرة، والإجابة بـ’نعم’ على النداءات التي تأتي من الخارج يمكن أن تجلب دون قصد أحدَ هذه الأرواح إلى الداخل”.

مجلة الجديد اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى