الأصوليـة الإسـلامية واســتبداد الدولة
كان مشروع الشيخ محمد عبده الإصلاحي الديني يقوم على ثلاثة أعمدة، أولها القضاء على التقليد الإسلامي السائد في الأزهر وقتها، لإنهاء خلافات المذاهب لمصلحة تصوُّر واحد عن الإسلام، خصوصا الإسلام السُنِّي. وثانيها أن يقوم هذا الإسلام الواحد على انتقاء الصالح من الفقه القديم وفتح باب الاجتهاد. وثالثها تحديد اتجاه الإصلاح، وهو أن يكون هذا الإسلام الواحد منفتحا على »الغرب« أو الحضارة الحديثة، متجها إلى العقلانية.
بهذا التحوُّل فتح الإصلاح الطريق إلى ثلاثة اتجاهات جديدة. أولها المجددون، الذين ساروا في نفس الاتجاه بدرجة أو بأخرى، مثل الشيخ عبد المتعال الصعيدي، أو الشيخ أمين الخولي الذي طرح قراءة القرآن بمنهج أدبي. ثانيها الأصوليون، الذين تمثلت استجابتهم لتحدى الغرب في تقديم إسلام واحد يقوم على التجييش والمواجهة تحت شعار الجهاد. ثالثها السلفيون، الذين سعوا لجعل هذا الإسلام الواحد متشددا مجتمعيا. بعبارة أخرى، نتج عن إصلاح محمد عبده تيارات عديدة متصارعة، لا تتبنى بالضرورة اجتهاداته في القضايا الإصلاحية المختلفة، لكنها تعتمد بشكل واعٍ أو غير واعٍ على منهجه، وخصوصا على تحطيم «التقليد». إذا كان الإصلاح الديني قابلا للتطوير في اتجاهات متعارضة، وقد تكون متناقضة، فما هي الظروف التي ترجِّح غلبة اتجاه معين على منافسيه؟
يقترح هذا المقال أن أحد أهم عناصر الإجابة تكمن في طبيعة المجال العام، والمجال السياسي خصوصا، الذي يتحرك فيه الإصلاح الديني. فالإصلاح عبارة عن استجابة فكرية لضغط الحداثة المتفوقة، وما ترتب على ذلك من الاقتباس منها بغرض تحقيق نهضة مشابهة. ومثل التيارات المدنية أو العلمانية، كانت إجابة الإصلاح الديني منشقة إلى اتجاهين: ديمقراطي وسلطوي، يتجه أولهما إلى إصلاح داخلي لاكتساب ما اعتبره المعاصرون مميزات الحداثة، أو في اتجاه تجييش مجتمعي، كما طرح جمال الدين الأفغاني (أستاذ محمد عبده) بغرض مواجهة الغرب وطرد نفوذه أو منعه من استعمار المنطقة (لكن مع اقتباس ما اعتُبر «أدوات» حديثة).
بهذا المنطق، ارتبطت غَلَبة اتجاه من اتجاهات الإصلاح الديني على سواها بالتطورات السياسية والفكرية العامة في اتجاه سلطوي أو ديمقراطي، التي كانت محصلة صراعات السلطة في الداخل، والضغوط الخارجية الموازية لها. ففي العهود «الليبرالية» والديمقراطية، غلب منطق التجديد، بينما غلب منطق الأصولية، بأشكاله العنيفة المختلفة، مع صعود السلطوية.
غلبت التصورات الإصلاحية (التي ترمي إلى التجديد، لا التجييش) في ظل صعود الحداثة «الليبرالية» التحررية المصرية، في أوائل القرن العشرين، التي عززتها ثورة 1919، لأنها أفسحت المجال لقوى الشعب المصري المختلفة للمشاركة في الحكم برغم بقاء الاستعمار، وأقامت مناخا ثقافيا وسياسيا مفتوحا من حيث المبدأ للحريات، وحيوية مجتمعية وفكرية وسياسية. كان هذا هو المناخ العام الذي تألق فيه فكر التجديد والتيارات العلمانية، وكُتَّابها الكبار، كانت الفكرة القائدة لهذا التيار هي إمكانية صياغة الثقافة الحديثة بشكل إسلامي، أو غير معارض للإسلام. لم تكن الكتابات الإسلامية التي ظهرت لبعض المفكرين والقانونيين استعادة لماضٍ إسلامي، بقدر ما كانت تجذيرا للقيم الحديثة في الثقافة الإسلامية.
وضع تيار التجديد في صدارة اهتماماته تغيير الوعي بالعالم وبالإسلام، وبث روح المسؤولية عن الإصلاح والتطور، ورأى أن التخلف والفهم التقليدي للإسلام عوامل ضعف، جعلت البلاد معرضة للهزيمة أمام الاستعمار.
بالمقابل، بدأ التيار الأصولي ينمو منذ الثلاثينيات، وبلورته جماعة الإخوان المسلمين، ضمن منظمات أخرى. وكان ذلك أيضا في سياق صعود مناخ سلطوي مواتٍ لأطروحاته، عالميا (الفاشية)، ومحليا. صعدت قوى سياسية جديدة تقول بأن التحرر من الاستعمار وتحقيق النهضة والقوة، إلخ، مرتبط باستعادة هوية مفقودة (وطنية أو عربية أو إسلامية)، وأن القضية الرئيسية بالتالي ليست الإصلاح، بل هي التخلص من «الدخيل» الأجنبي. بعد ذلك ستأتي النهضة تلقائيا، بشرط اصطفاف السكان خلف قيادة واحدة تدافع عن الهوية لا يخرج عليها إلا خوارج الأمة. ومن أمثلة هذه القوي مصر الفتاة ومجموعات عروبية بالإضافة للإخوان المسلمين. فوق ذلك، تحالف هؤلاء مع السراي الملكية، لوجود هدف مشترك بينهما، وهو القضاء على التعدد الديمقراطي باعتباره، وفقا لمنظورهم، تفتيتا للأمة.
مع صعود الضباط الأحرار إلى السلطة ورسوخ سلطتهم، تغيرت الأوضاع جذريا. سادت الأيديولوجيا الوطنية السلطوية، وتم إغلاق المجال السياسي بالكامل، والسيطرة على منظمات المجتمع المدني من نقابات وجمعيات ونوادٍ وغيرها، في هذا الجو السلطوي ظهر الخطاب الإسلامي الجذري الجهادي الطابع على أيدي البعض، وعلى رأسهم سيد قطب، الذي طرح في أواخر الخمسينيات تكوين «عصبة مؤمنة» أو «طليعة مؤمنة»، بتعبيراته (وهو نفس التعبير الشائع في وثائق السلطة وخطاباتها)، تعتنق فكرة أن كلمة الدين تعني نظام الحكم، وأن الحكم يكون للـه بأن تتولى هذه الطليعة السلطة لتطبق الشريعة (مع تطويرات وتجديدات تتناسب مع الوضع)؛ وبالتالي يكون الفقه هو جوهر الإسلام. وبالنسبة للحظة الصراع هذه، يكون «الفقه السياسي»، المتعلق بكيفية تولى العصبة المؤمنة للسلطة واحتكارها لها، هو لب الإسلام. في مقابل «الميثاق»، الذي طرحه النظام في 1962 كوثيقة إرشادية للبلاد، قدّم سيد قطب كتابا من نفس الحجم تقريبا بعنوان «معالم في الطريق»، ليكون بمنزلة الإعلان الموازي، والمضاد، لمبادئ الإسلام الجهادي.
استمر نظام يوليو قرابة الستين عاما، كنظام سلطوي لم يغيره من هذه الناحية انفتاح ولا حزبية صورية. وشكَّل ذلك، بالإضافة إلى إفلاس النظام أيديولوجيا وضيق قاعدته المجتمعية، شرطا ضروريا لصعود الخطاب الأصولي وقواه على حساب خطاب التجديد، حتى أصبح من المسلَّم به لدى قطاعات واسعة أن التجديد كُفر، وهو ما أدى إلى سلسلة من المطاردات للمجددين.
لم يسفر ذلك عن صعود التيارات التكفيرية فحسب، بل أسفر عن تغيرات مهمة في بناء تنظيم الإخوان، الذي لم يكن في تشكُّله الجديد في السبعينيات وما بعدها يجاهد بالسلاح، لكنه تبنى من المبادئ القطبية إقامة تنظيم شبه عسكري (لكن بغير سلاح) على النمط الذي اقترحه قطب، ومبنى على تربية عقائدية مكثفة، وبأهداف سلطوية صريحة.
والخلاصة أن ارتباط صعود التيار التجديدي أو الأصولي للإصلاح الديني بالوضع السياسي العام للبلاد، يعني أن مواجهة الأصولية ترتبط بالضرورة بمدى حيوية وتجدد وحرية المجال العام، سواء ثقافيا أو سياسيا، بينما تدعم الديكتاتورية، حتى لو كانت معادية للإسلاميين – مثل نموذج عبد الناصر – التيار الأصولي، لأنها – إلى جانب أسباب أخرى – تُشكِّل المجال العام بصورة تدعم أفكارها السلطوية.
ميدل ايست أونلاين