الأغنياء يتبادلون المصالح والفقراء يتبادلون النصائح
” الأغنياء الذين يعتقدون أن الفقراء سعداء، ليسوا أكثر غباء من الفقراء الذين يعتقدون أن الأغنياء سعداء”.. لا تحتاج هذه الملاحظة إلى مقولات مأثورة حتى تثبت دقتها، ولا تكلّف نفسها عناء البحث المطوّل في الحكم والأمثال الشعبية التي يعجّ بها موضوع ” الفقر والغنى” في كل الثقافات منذ ظهور الملكيّة الخاصة وما فعلته من فرز طبقي، أنتج بدوره منظومات فكرية وعقائدية وسياسية متشعبة.
الغني والفقير، يحاولان أن يجدا أرضية أخلاقية يلتقي فيها الاثنان، ويمكن لهما من خلالها أن يتحاورا وأن يتقاربا، لكن الرؤية وزاوية النظر والمصلحة المشتركة لكلا الطرفين ليست واحدة، فما يعتبره الفقير واجبا على الغني، يحسبه الغني حقا شرعيا مكتسبا لا دخل للفقير فيه، ومن هنا نشأت النزاعات والضغائن، وتعمقت الهوة بين الفقير والغني، وصار الطرفان يشتركان في شيئ اسمه القسوة التي عبّر عنها أحد الكتّاب بتساؤله: لماذا كان قياصرة روما و عامة الشعب يحبون رؤية العبيد و هم يقطعون بعضهم بعضاً ؟ لماذا لم يمنح الفقر الفقراء بعض الرحمة؟ علي قدر علمي فإن مزاج الأباطرة يختلف تماماً عن مزاج العامة.. فلماذا إتفق المزاجان علي شئ واحد، وهو القسوة”.
في كتابه ” طبائع الاستبداد” قال عبد الرحمن الكواكبي ” الاستبداد لو كان رجلاً وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: أنا الشرُّ، وأبي الظلم، وأمّي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسْكَنة، وعمي الضُّرّ، وخالي الذُّلّ، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي فالمال المال المال”.
المال الذي قال عنه فيليكس مارتن، في كتابه “المال ” إنه كالماء بالنسبة للأسماك، إنه أساسي في حياتنا إلى درجة أن فهمه يحتاج إلى جهد كبير، ويعتقد مارتن أن المفهوم الخاطئ عن طبيعة المال – وهو المفهوم الذي يَعتبِر المال مجرد سلعة تستخدم لتنفيذ التعاملات ويمكن معاملتها بالتالي مثل أية سلعة أخرى في السوق – يقع في قلب إهمال صناع السياسة وأسلوبهم الرديء في التعامل مع الأزمات المالية.
المال ليس مجرّد وسيلة لتعويض المقايضة بالنقود كما يعتقد الأغرار في علوم الاقتصاد، والتي كانت قائمة على ما يسد الرمق في المعيشة، وهي التي نجدها في ملحمتي هوميروس ” الألياذة والأوديسة” وتقوم التعاملات من خلال غنائم الحرب وتبادل الهدايا، أو المشاركة في طعام القرابين.
وتحدثت مصادر عن جزيرة “ياب” في المحيط الهادي، والتي تتألف عملتها من ”الفاي”، وهي عجلات حجرية ضخمة يصل قطر الواحدة منها إلى 12 قدماً. هذه الأحجار لا تتحرك أبداً من أجل تسهيل التعاملات – وهي في هذا تشبه كثيراً الحسابات المصرفية الإلكترونية الحديثة – وإنما تعتبر تمثيلا رمزيا للقيمة، ويمكن أن يتغير مالكها دون أن يجري تبادلها بين الناس، حتى أن رواية تقول بأن أحد الأحجار ضاع في البحر دون أن يهدد ذلك ـ ولو للحظة ـ ثروة المالك.
نفهم مما تقدّم أن الحديث عن تاريخ المال يشبه الحديث عن ” بداية تاريخ البشرية”، لكن الاختلاف في تقييم المال ظل مستمرا ولن ينتهي هذا الموضوع الذي أخذ أبعادا درامية رسمت التاريخ الفني والحضاري للبشرية.
الغايات التي تجعلنا نعيد طرح هذا السؤال القديم المتجدد، هي كثيرة في العالم العربي على وجه الخصوص، ولعل أهمها ما تمثله هذه المنطقة الجغرافية من أهمية وأسبقية وحساسية فيما يخص موضوع المال وتشابكاته في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفقهية والتشريعية، بالإضافة إلى أن العرب يمتلكون أكثر الثقافات التباسا وإشكالية مع المال، ثم أن المنطقة لم تعرف حسما واضحا من ناحية علاقتها مع مسألة الغنى والفقر، إذ لم تشهد نظما رأسمالية بالمفهوم الغربي، ولا نظما اشتراكية وفق النماذج التي سادت في أوروبا الشرقية، وظلت مشدودة إلى منظومات أخلاقية تستمد مرجعيتها وشرعيتها الاجتماعية من الدين.