الأفغاني… وضع رأيه بالسلطنة والسلطان جانباً!

 

 
غادر العام 1270هـ/ 1853م السيد جمال الدين الحسيني مدينة النجف الأشرف بعد أربع سنوات قضاها في طلب العلم، بعد نصيحة من علاّمتها الشيخ مرتضى الأنصاري إثر مكيدة دبّرها البعض ضده. وإذا أخذنا في الاعتبار أن ولادته كانت عام 1254هـ، يكون عمره عندما غادر النجف سبعة عشر عاماً.
كان قليل الميل إلى الدنيا، ولكن طموحه كان كبيراً، بناءً على جوابه لأبيه عندما طلب إليه البقاء في إيران لدى مروره به في أسد آباد حيث قال: "إنني كصقر محلّق يرى فضاء هذا العالم الفسيح ضيقاً لطيرانه، وإنني لأتعجب منكم؛ إذ تريدون أن تحبسوني في هذا القفص الضيّق الصغير".
كان ينظر إلى الفضاء الإسلامي الرحب، كيف تتكاثر وتتكاثف حوله وعليه الغيوم، غيوم الحقد والطمع، وتحجب الرؤية عن أطرافه. من هنا جاء تطوافه فيما بعد في ديار المسلمين وفي المناطق التي كانت على تماس مباشر ووثيق مع أوضاع المسلمين ومصيرهم. اختار الهند في بداية رحلته، ويُلاحَظ ان الأقاليم التي استقطبته أكثر من غيرها من أجل هذا الغير أيضاً، هي الهند وإيران ومصر وأفغانستان والأستانة (استانبول).

دليله في ترحاله

لماذا اختار الهند بداية؟ عندما قدم مشروعه السياسي التنظيمي إلى السلطان عبد الحميد الثاني متوخياً أن يكوّن أرضية للوحدة والجهاد، ركّز على أن الإجراءات الإصلاحية، التي تُتخذ في بعض الأقاليم الإسلامية، ستجتذب غيرها من الأقطار، حتى تلك التي هي خارج السلطة العثمانية، إلى الاتحاد، فقال عن الهند ".
هل تقف الهند وأمراؤها والمائة وثمانون مليوناً من المسلمين عن نصرة (السلطان) واللحاق لشدّ ساعد إخوانهم ليدفعوا غارة الغرب عن الدول الإسلامية في الشرق وعن هندهم أيضاً؟". وقد كان احتلال الهند عام 1867 ليكون ذلك مدخلاً لاحتلالات أخرى، ومن هنا جاءت عنايته بإيران وأفغانستان، اللتين كانتا تجمعان إلى أهميتهما طمع المستعمرين بهما من الجانب الروسي والجانب الإنجليزي معاً. وهذا ما شدّه إلى مصر، بعد احتلالها، خاصة عام 1882؛ إذ كانت تعني للأمة كما عنت للمستعمرين السودان أيضاً، والسودان يعني أوغندا من جهة، كما كان يذهب أفقها السياسي من جهة أخرى ليصل إلى كينيا مروراً بطرابلس الغرب. وقد اكتشف في مصر أهميتها بوضوح شديد حتى سماها "باب الحرمين".

ما شدّه إلى الأستانة

منذ وصوله إلى الأستانة عكف على تعلّم اللغة التركية رغم دعوته إلى تعريبها، فتعلّمها في ستة أشهر، واستقبلته الأستانة وكان عالي باشا الصدر الأعظم في مقدمة المستقبلين، وبدون فاصل زمني كبير استقبله السلطان عبد العزيز محمود. ثم عيّنه السلطان عضواً في المجلس الأعلى للمعارف، في حين أخذ يمارس نشاطه العلمي في مسجد "الفاتح الكبير".
جاء السيد إلى الأستانة في منتصف عهد عبد العزيز (1860-1876). فما هي المعطيات التي ألحت عليه بالمجيء؟ كانت فرنسا قد احتلت الجزائر (عام 1830) وقضت على المقاومة في قسطنطينة (عام 1836)، كما كانت قد حصلت الحروب بين السلطنة العثمانية ومحمد علي، حيث تدخلت الدول الأوروبية مجتمعة، رغم عدائها للدولة؛ لتمنع محمد علي من متابعة سيره نحو استانبول خوفاً من قيام دولة إسلامية قوية وموحدة، وإبقاء على الدولة العثمانية مع الاستمرار في إضعافها وإستضعافها؛ ليمكن إسقاطها وتقاسم ولاياتها فيما بعد. انتهت هذه الحروب عام 1832، وعقدت معاهدة كوتاهية عام 1833، بعدما ترك للطرفين أو يُستنزفا، وبسبب التنافس الأوروبي على اقتسام الدولة العثمانية وتوزيع أسلابها، توقّف الزحف الأوروبي الاستعماري حوالي نصف قرن. وفي عام 1860، احتلّ الجيش الفرنسي بيروت لمدة تسعة أشهر بعد الحرب الطويلة، التي أشعلتها أوروبا بين الطوائف.
كان طبيعياً أن يرى السيد في أن العالم الإسلامي مستهدفٌ، وفي النقطة المركزية من هذا الاستهداف، الأستانة (الدولة)، باعتبارها مظهر الوحدة وعنوانها، وهنا كان حرياً به أن يستجيب لنداء الواجب، ليضع رأيه في السلطة والسلطان جانباً، ويُغلّب الصراع ضد الأعداء على الصراع الداخلي، ويغلب إنقاذ وجود الأمة موحدة على الإصلاح الداخلي، دون أن يهمله، بل يراه مدخلاً إلى الوحدة والنصر، وشرطاً، وبالتالي فإن من شأن الصراع ضد العدو الخارجي أن يسهم في تصحيح الأوضاع الداخلية، بينما إعطاء الأولوية للصراع الداخلي في ظروف معقدة من شأنه أن يرجح كفة العدو، ويدفع بالحب إلى طاحونته.
بصرف النظر عن مدى تطابقها مع مقاصد الإسلام، أو عدم تطابقها، فقد كان يؤذي الغرب أن يستمر هذا المظهر الوحدوي. ذلك ما أدركه المخلصون ممن كانت معاناتهم من الاستبداد والفساد العثماني أشد من معاناة أولئك الذين ارتبطوا بالغرب، وأخذوا يقوّضون الدولة من الداخل.
المخلصون لم يستطيعوا أن يروا في التوجه الاستعماري بديلاً كريماً للدولة العثمانية، فوقفوا إلى جانبها في أوقات محنها، متنازلين عن كثير من مآخذهم، متحملين في ذلك الكثير من الضيق والعناء. من رواد هذا المنهج كان السيد جمال الدين أسد آبادي أو الأفغاني السنّي أو الشيعي، لا فرق، بل لعل ميزته أنه ترك الجدل مفتوحاً على هذه المسألة.. إنه المسلم أولاً.
إنه لجدير بالتأمل أن نرى السيد جمال الدين المتحيّز للعدل، الذي كتب وخطب وعلّم كثيراً حول الاستبداد، رافضاً له عن علم وإيمان، وسعى بجرأة نادرة إلى إسقاط رموزه من "دوست محمد خان" في أفغانستان إلى "ناصر الدين شاه" في إيران إلى "الخديوي إسماعيل" في مصر، ودفع راضياً ثمن هذه الجرأة ترحالاً مضنياً، نراه يُغضي.. لا لأنه بدّل في قناعاته بل لأن الأخطار المحدقة بالمنطقة كانت تقتضي الاغضاء إلى حين.. يُغضي ويذهب إلى الاستانة ثانية.

اللقاء بعبد الحميد الثاني

كانت ثانية رحلتيه في عهد السلطان عبد الحميد، الذي قيل الكثير عن جوره(36)، ليتبين فيما بعد أن الغرب والمتغربين كانوا وراء الحملة، لا إنصافاً لرعايا السلطنة، بل كيداً لها، ذلك لا يعني أن السلطان عبد الحميد كان مثال العدل، ولكنه لم يكن على الصورة التي قدموها عنه، وهم يحاولون أن يوحوا للجميع بأن الاستبداد والفساد متأصلان في تركيب الحاكم الشرقي، وأن الإسلام لا يحول دونهما، وأن البديل هو منهج الغرب. لقد كانت سلبيات عبد الحميد لا تنكر، ولكن الحساب عليها يؤجل أو يخفف عندما تقابلها إيجابيته في تصدّيه لمطامع الدول الغربية، ورؤيته للوحدة الإسلامية كأساس في مقاومته. والذين يقفون على أرض الوحدة والعداء للغرب قد يغتفرون هذه السلبيات من أجل الأهم.


خلاصة بحث هاني فحص' السيد والسلطان: الأفغاني وعبد الحميد'، ضمن الكتاب 80 (أغسطس 2013) 'الإخوان وإيران توظيف الدين لمعركة السياسة'' الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي.

ميدل ايست أونلاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى